الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا } :
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الْكِفَاتُ : الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، وَهُوَ مَصْدَرٌ ، يُقَالُ : كَفَتَهُ يَكْفِتُهُ كَفْتًا وَكِفَاتًا مِثْلُ كَتَبَ يَكْتُبُ كَتْبًا وَكِتَابًا ، أَيْ يَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ، وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمَمْته فَقَدْ كَفَتَّهُ ، فَإِذَا حَلَّ الْعَبْدُ فِي مَوْضِعِهِ فَهُوَ كِفَاتُهُ ، وَهُوَ مَنْزِلُهُ ، وَهُوَ دَارُهُ ، وَهُوَ حِرْزُهُ ، وَهُوَ حَرِيمُهُ ، وَهُوَ حِمَاهُ ، كَانَ يَقْظَانَ أَوْ نَائِمًا . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ «صَفْوَانَ قَالَ : كُنْت نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى خَمِيصَةٍ لِي بِثَمَنِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ؛ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي ، فَأَخَذَ الرَّجُلَ ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ قَالَ : فَقُلْت لَهُ : أَتَقْطَعُهُ من أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، أَنَا أَبِيعُهُ إيَّاهَا ، وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا . قَالَ : هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ! فَكَانَتْ نَفْسُهُ حِيَازَةَ مَوْضِعِهِ وَحِرْزِهِ وَحَرِيمِهِ وَمَنَعَتِهِ وَحِصْنِهِ » .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } يَقْتَضِي أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كُلِّهَا من شَعْرٍ ، وَظُفْرٍ ، وَثِيَابٍ ، وَمَا يُوَارِيهِ عَلَى التَّمَامِ ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ وَمَا بَانَ عَنْهُ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ من الْمَسَائِلِ :
المسألة الثَّالِثَةُ : احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ لِأَنَّهُ سَرَقَ من حِرْزٍ مَكْفُوتٍ ، وَحِمًى مَضْمُومٍ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَرَّرْنَا أَنْ يُنْظَرَ فِي دُخُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ نَقُولَ : هَذَا حِرْزٌ كِفَاتٌ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } فَجَعَلَ حَالَ الْمَرْءِ فِيهَا بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي كَفْتِهَا لَهُ وَضَمِّهَا لِحَالِهِ كَحَالَةِ الْحَيَاةِ وَمَا تَحْفَظُهُ وَتَحْرُزُ حَيًّا ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا فَهَذَا أَصْلٌ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ ، فَإِنَّ السَّارِقَ فِيهَا هُوَ آخِذُ الْمَالِ عَلَى طَرِيقِ الْخِفْيَةِ وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ ، وَهَذَا فِعْلُهُ فِي الْقَبْرِ كَفِعْلِهِ فِي الدَّارِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الَّذِي سُرِقَ مَالٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ ، وَقُلْنَا نَحْنُ : هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ فِي مَنْفَعَةِ الْمَالِكِ ، كَالْمَلْبُوسِ فِي الْحَيَاةِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمَالِكٍ ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ مَالِكٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ ، تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ ، وَتَنْفُذُ فِيهِ وَصَايَاهُ . وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَفَنِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ وَمُحْتَاجٌ إلَيْهِ ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ من الْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى ثَبَتَ الْقَطْعُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .