وتشير الآية التالية إلى فئة خاصّة من المؤمنين ،وهم الذين كانوا أكثر تأسّياً بالنّبي ( صلى الله عليه وآله ) من الجميع ،وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا الله به ،وهو التضحية في سبيل دينه حتّى النفس الأخير ،وإلى آخر قطرة دم ،فتقول: ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ) من دون أن يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه ( وما بدّلوا تبديلا ) .
إنّهم لم ينحرفوا قيد أنملة عن خطّهم ،ولم يألوا جهداً في سبيل الله ،ولم يتزلزلوا لحظة ،بعكس المنافقين أو ضعاف الإيمان الذين بعثرتهم عاصفة الحوادث هنا وهناك وأفرزت الشدائد في أدمغتهم الخاوية أفكاراً جوفاء خبيثة ..إنّ المؤمنين وقفوا كالجبل الأشمّ وأثبتوا أنّ العهد الذي عاهدوا به لا يقبل النقض أو التراجع عنه .
إنّ لفظة ( نحب ) على زنة ( عهد ) تعني العهد والنذر والميثاق ،ووردت أحياناً بمعنى الموت ،أو الخطر ،أو سرعة السير ،أو البكاء بصوت مرتفع{[3363]} .
وهناك اختلاف بين المفسّرين في المعنيّ بهذه الآية .
يروي العالم المعروف ( الحاكم أبو القاسم الحسكاني )وهو من علماء السنّةبسند عن علي ( عليه السلام ) أنّه قال: «فينا نزلت ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) فأناواللهالمنتظر وما بدّلت تبديلا ،ومنّا رجال قد استشهدوا من قبل كحمزة سيّد الشهداء »{[3364]} .
وقال آخرون: إنّ جملة ( من قضى نحبه ) إشارة إلى شهداء بدر واُحد ،وجملة: ( ومنهم من ينتظر ) إشارة إلى المسلمين الصادقين الآخرين الذين كانوا بانتظار إحدى الحسنيين: النصر ،أو الشهادة .
وروي عن «أنس بن مالك » أيضاً: أنّ عمّه «أنس بن النضر » لم يكن حاضراً في غزوة بدر ،فلمّا علم فيما بعد ،وكانت الحرب قد وضعت أوزارها ،أسف لعدم اشتراكه في الجهاد ،فعاهد الله على أن يشارك في الجهاد إن وقعت معركة اُخرى ويثبت فيها وإن زهقت روحه ،ولذلك فقد شارك في معركة اُحد ،وحينما فرّ جماعة لم يفرّ معهم ،وقاوم وصمد حتّى جرح ثمّ استشهد{[3365]} .
وروي عن «ابن عبّاس » أنّه قال: إنّ جملة: ( منهم من قضى نحبه ) إشارة إلى حمزة بن عبد المطّلب وباقي شهداء اُحد ،وأنس بن النضر وأصحابه{[3366]} .
ولا منافاة بين هذه التفاسير مطلقاً ،لأنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ شهداء الإسلام الذين استشهدوا قبل معركة الأحزاب ،وكلّ من كان منتظراً للنصر أو الشهادة ،وكان على رأسهم رجال كحمزة سيّد الشهداء وعلي ( عليهما السلام ) ،ولذلك ورد في تفسير الصافي: أنّ أصحاب الحسين بكربلاء كانوا كلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسين ( عليه السلام ) وقال: السلام عليك يا بن رسول الله ،فيجيبه: وعليك السلام ونحن خلفك ،ويقرأ: ( فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ){[3367]} .
ويستفاد من كتب المقاتل أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) تلا هذه الآية عند أجساد شهداء آخرين كمسلم بن عوسجة ،وحين بلغه خبر شهادة «عبد الله بن يقطر »{[3368]} .
ومن هنا يتّضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ المؤمنين المخلصين الصادقين في كلّ عصر وزمان ،سواء من ارتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل الله ،أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع ،وكان مستعدّاً للجهاد والشهادة .
/خ25