وتبيّن الآية التالية علّة عرض هذه الأمانة على الإنسان ،وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد انقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات: المنافقين والمشركين والمؤمنين ،فتقول: ( ليعذّب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً ) .
يوجد هناك احتمالان في معنى «اللام » في ( ليعذّب ):
الأوّل: أنّها «لام الغاية » التي تذكر لبيان عاقبة الشيء ونهايته ،وبناءً على هذا يكون معنى الآية: كانت عاقبة حمل هذه الأمانة أن سلك جماعة طريق النفاق ،وجماعة سبيل الشرك ،وهؤلاء سيبتلون بعذاب الله لخيانتهم أمانته ،وجماعة هم أهل الإيمان الذين ستشملهم رحمته لأدائهم هذه الأمانة والقيام بواجباتهم .
والثاني: أنّها «لام العلّة » ،فتكون هناك جملة مقدرة ،وعلى هذا يكون تفسير الآية: كان الهدف من عرض الأمانة أن يوضع كلّ البشر في بوتقة الاختبار ،ليُظهر كلّ إنسان باطنه فيرى من الثواب والعقاب ما يستحقّه .
وهنا اُمور ينبغي الالتفات إليها:
1إنّ سبب تقديم أهل النفاق على المشركين هو أنّ المنافق يتظاهر بأنّه أمين في حين أنّه خائن ،إلاّ أنّ خيانة المشرك ظاهرة مكشوفة ،ولذلك فإنّ المنافق يستحقّ حظّاً أكبر من العذاب .
2يمكن أن يكون سبب تقديم هاتين الفئتين على المؤمنين هو أنّ الآية إنّ هذا التّفسير ليس مخالفاً لظاهر الآية من ناحية الاحتياج إلى التقدير وحسب ،بل يمكن أن يناقش ويورد على اعتقاده بأنّ على الملائكة نوع تكليف ،وأنّها حاملة لجزء من هذه الأمانة .وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإنّ تفسير أهل الجبال بالملائكة لا يخلو من غرابة ،دقّقوا ذلك .
السابقة قد ختمت ب ( ظلوماً جهولا ) وهاتان الصفتان تناسبان المنافق والمشرك ،فالمنافق ظالم ،والمشرك جهول .
3لقد وردت كلمة ( الله ) مرّة واحدة في شأن المنافقين والمشركين ،ومرّة في شأن المؤمنين ،وذلك لأنّ مصير الفئتين الاُوّليين واحد ،وحساب المؤمنين يختلف عنهما .
4يمكن أن يكون التعبير بالتوبة بدل الجزاء والثواب في شأن المؤمنين بسبب أنّ أكثر خوف المؤمنين من الذنوب والمعاصي التي تصدر عنهم أحياناً ،ولذا فإنّ الآية تطمئنهم وتمنحهم السكينة بأنّ ذنوبهم ستغفر .
أو لأنّ توبة الله على عباده تعني رجوعه عليهم بالرحمة ،ونعلم أنّ كلّ الهبات والعطايا والمكافآت قد اُخفيت في كلمة «الرحمة » .
5إنّ وصف الله بالغفور والرحيم ربّما كان في مقابل الظلوم والجهول .أو لمناسبته ذكر التوبة بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات .
الآن وقد بلغنا نهاية سورة الأحزاب بفضل الله سبحانه ،نرى لزاماً ذكر هذه المسألة ،وهي: أنّ انسجام بداية هذه السورة مع نهايتها يستحقّ الدقّة والانتباه ،لأنّ هذه السورةسورة الأحزابقد بدأت بخطاب النّبي ( صلى الله عليه وآله ) وأمره بتقوى الله ،ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين ،والتأكيد على كون الله عليماً حكيماً ،وانتهت بذكر أعظم مسألة في حياة البشر ،أي حمل أمانة الله .ثمّ بتقسيم البشر إلى ثلاث فئات: المنافقين ،والكافرين ،والمؤمنين ،والتأكيد على كون الله غفوراً رحيماً .
وبين هذين البحثين طرحت بحوثاً كثيرة حول هذه الفئات الثلاثة ،وأسلوب تعاملهم مع هذه الأمانة الإلهية ،وكلّ هذه البحوث يكمل بعضها بعضاً ،ويوضّح بعضها بعضاً .
اللهمّ اجعلنا ممّن قبلوا أمانتك بإخلاص ،وحملوها بعشق ولذّة ،وقاموا بواجباتهم تجاهها .
اللهمّ اجعلنا من المؤمنين الذين وسعتهم رحمتك ،لا من المنافقين والمشركين الذين استحقّوا العذاب لكونهم ظلومين جهولين .
اللهمّ انزل غضبك وسخطك على أحزاب الكفر التي اتّحدت مرّة اُخرى ،واحتّلت مدينة الإسلام في عصرنا الحاضر ،واهدم قصورهم على رؤوسهم .اللهمّ وهب لنا من الثبات والاستقامة ما نقف به كالجبل لندافع عن مدينة الإسلام ونحرسها في هذه اللحظات الحسّاسة .
آمين يا ربّ العالمين .
نهاية سورة الأحزاب