ولكن المستضعفين لا يقتنعون بهذا الجواب ،ويعاودون القول مرّة اُخرى لإثبات جرم المستكبرين: ( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ،بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً ) .
نعم ،فأنتم الذين لم تكفوا عن بثّ السموم ،ولم تفرطوا بأي فرصة من الليل أو النهار من أجل تحقيق أهدافكم المشؤومة ،فصحيح أنّنا كنّا أحراراً في القبول بذلك ،وبذا نكون مقصّرين وجناة ،ولكن بإعتباركم عامل الفساد فأنتم مسؤولون ومجرمون ،بل إنّكم واضعوا حجر الأساس لذلك ،خاصّة وأنّكم كنتم تتحدّثون معنا دائماً من موقع القدرة والسلطة ،( التعبير ب «تأمروننا » شاهد على هذا المعنى ) .
بديهي أنّ المستكبرين لا يملكون جواباً لهذا القول ،ولا يمكنهم إنكار جرمهم الكبير ذاك ،لذا فإنّ الفريقين يندمون على ما قدّمت أيديهم ،المستكبرون على إضلالهم للآخرين ،والمستضعفون على إيمانهم وقبولهم بتلك الأباطيل المشؤومة ،ولكن لكي لا يفتضحوا أكثر فانّهم يكتمون الندم حينما يواجهون العذاب الإلهي ..( وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ) .
فمع أنّ الكتمان لا ينفع في «يوم البروز » هناك ،ومع عدم إمكانية إخفاء شيء ،إلاّ أنّهمجرياً على ما تعوّدوه في الدنيا من قبليتوهّمون أنّ في استطاعتهم كتمان حالتهم ،فيلجأون إلى ذلك .
نعم ،فهم في الدنيا حينما يلتفتون إلى اشتباههم ويندمون لم يكونوا يمتلكون الشجاعة لإظهار ندمهم الذي هو أوّل طريق التوبة وإعادة النظر ،وتلك هي الخصلة الأخلاقية الخاصّة بهم والتي يمارسونها في الآخرة أيضاً .ولكن ما الفائدة ؟
بعض المفسّرين احتملوا أن يكون ذلك الكتمان للندامة بسبب الرهبة الشديدة من مشاهدة العذاب الإلهي ،وانحباس أنفاسهم في صدورهم وإنعقاد ألسنتهمنتيجة الأغلال التي غُلّت بها رقابهم والسلاسل التي لفّتهم .مع أنّهم يطلقون صرخاتهم في مواقف اُخرى من القيامة ( يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين ){[3505]} .
وقال آخرون: إن «أسرّوا » بمعنى «أظهروا » بناءً على أنّ هذه اللفظة تستعمل لمعنيين متضادّين في اللغة العربية ،ولكن من ملاحظة الموارد التي استعملت فيها هذه اللفظة في القرآن وغير القرآن ،يبدو هذا المعنى مستبعداً ،بلحاظ أنّ «سرّ » عادة تستخدم للإشارة إلى ما يقابل «العلن » .وقد ضعّف الراغب هذا المعنى أيضاً مع أنّ بعض علماء اللغة أشار إلى كلا المعنيين{[3506]} .
وعلى كلّ حال ،فإنّ هؤلاء قد وجدوا نتائج أعمالهم ( هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون ) .
نعم ،فأعمال وجنايات الكفّار والمجرمين هي التي أضحت قيوداً وسلاسل تلفّ أعناقهم وأيديهم وأرجلهم ،لقد كانوا في هذه الدنيا أسارى هوى النفس والطمع والظلم والرغبة في المقام ،وفي يوم القيامة حيث تتجسّد الأعمال ،يظهر ذلك الأسر بشكل آخر ...إذن ،فالآية تشير أيضاً إلى قضيّة تجسّم الأعمال التي أشرنا إليها مراراً .لأنّها تقول: ( هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون ) وأي تعبير أكثر وضوحاً وحيوية من ذلك التعبير عن تجسّم الأعمال .
التعبير ب «الذين كفروا » يشير إلى أنّ فريقي الغاوين والمغويين المستضعفين وكلّ الكفّار يلقون ذلك المصير ،وعادةً فإنّ ذكر ذلك الوصف هو إشارة إلى أنّ علّة عقابهم إنّما هي «كفرهم » .