والشيء الوحيد الذي يوحى إليّ هو أنّني نذير مبين ( إن يوحى إليّ إلاّ أنّما أنا نذير مبين ) .
ورغم أنّ الملائكة لم تناقش وتجادل البارئ عز وجل ،ولكنّ ذلك المقدار من الكلام الذي قالوه عندما أخبرهم الباريّ عز وجل بأنّه سيجعل في الأرض خليفة ،فقالوا: أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟فأجابهم قائلا: إنّي أعلم مالا تعلمون: ( وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون ) ،مثل هذا النقاش أطلق عليه اسم ( التخاصم ) وهي تسمية مجازية ،وقد كانت هذه مقدّمة للآيات التالية التي تتحدّث عن خلق آدم .
وثمّة احتمال وارد أيضاً هو أنّ عبارة ( الملأ الأعلى ) لها مفهوم أوسع يشمل حتّى الشيطان ،لأنّ الشيطان كان حينئذ في زمرة الملائكة ،ونتيجة تخاصمه مع البارئ عز وجل واعتراضه على إرادة الله طرد إلى الأبد من رحمة الله .
وقد وردت روايات متعدّدة في كتب الشيعة والسنّة بهذا الخصوص ؛جاء في إحداها أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سأل أحد أصحابه: «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى ؟
فقال: كلاّ ،فأجاب رسول الله «اختصموا في الكفّارات والدرجات ،فأمّا الكفّارات فإسباغ الوضوء في السبرات ،ونقل الأقدام إلى الجماعات ،وإنتظار الصلاة بعد الصلاة ،وأمّا الدرجات فإفشاء السلام ،وإطعام الطعام ،والصلاة في الليل والناس نيام » .
وبالطبع فإنّ هذا الحديث لم يذكر أنّه ناظر إلى تفسير الآية المذكورة أعلاه ،رغم تشابه بعض عباراته مع عبارات الآية ،وعلى أيّة حال ،يستفاد من الحديث أنّ المراد من ( اختصموا ) هو أنّهم تباحثوا وتناقشوا ،ولا يعني الجدال في الحديث ..فهم تباحثوا وتناقشوا بشأن أعمال الإنسان والأعمال التي تكون كفّارة لذنوبهم وتزيد من درجات الإنسان وترفع من شأنه ،ويمكن أن يكون بحثهم حول عدد من الأعمال التي تعدّ مصدراً لتلك الفضائل ،أو بشأن تعيين حدّ وميزان للدرجات الناتجة عن تطبيق الإنسان لتلك الأعمال ،وبهذا الشكل يكون الحديث تفسيراً ثالثاً للآية ،وهو مناسب من عدّة جوانب ،ولكنّه لا يتناسب مع الآيات التالية ،إذ ربّما كان المقصود هو بحث ومناقشات الملائكة في موارد أخرى ،وليس ذلك المتعلّق بالآية .
والجدير بالذكر أنّ معنى عدم علم النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو أنّي لم أكن أعلم ذلك من نفسي ،لأنّ علمي ليس من قبل نفسي وإنّما ينزل عليّ عن طريق الوحي .