وبعد قسمه انتبه إبليس إلى هذه الحقيقة ،وهي أنّ هناك مجموعة من عباد الله المخلصين لا يمكن كسبهم بأي طريقة إلى داخل منطقة نفوذه ،لذلك أجبر على الاعتراف بعجزه في كسب أولئك فقال: ( إلاّ عبادك منهم المخلصين ): أولئك الذين يسيرون في طريق المعرفة والعبودية لك بصدق وإخلاص وصفاء ،إنّك دعوتهم إليك ،وأخلصتهم لك ،وجعلتهم في منطقة أمنك ،وهذه هي المجموعة الوحيدة التي لا أتمكّن من الوصول إليها ،أمّا البقيّة فإنّ بإمكاني إيقاعهم في شباكي .
حدس وظنّ إبليس كان صحيحاً ،إذ أنّه أوجد العراقيل لكلّ واحد من بني آدم عدا المخلصين الذين نجوا من فخاخه وذلك ما أكّده القرآن المجيد في الآية ( 20 ) من سورة سبأ: ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين ) .
بحثان
1فلسفة وجود الشيطان
هناك مسائل مهمّة تطرح بشأن الآيات المذكورة أعلاه ،منها مسألة خلق الشيطان ،وسبب سجود الملائكة لآدم ،وسبب تفضيل آدم على الملائكة ،والشيطان على من سيتسلّط ،وما هي نتيجة التكبّر والغرور ،وما المقصود من الطين وروح الله ،ومسألة خلق آدم وخلقه المستقل في مقابل فرضيات تكامل الأنواع ؟ومسائل أخرى من هذا القبيل تمّ تناولها وبصورة مفصّلة في التّفسير الأمثل في ذيل الآية ( 34 ) من سورة البقرة ،وفي ذيل الآية ( 26 ) من سورة الحجر ،وفي ذيل الآية ( 11 ) من سورة الأعراف .
نعود مرّة أخرى إلى السؤال الأوّل الخاصّ بشأن فلسفة خلق الشيطان ،فالكثير يتساءل إن كان الإنسان خلق من أجل التكامل ونيل السعادة عن طريق عبوديته لله ،فما هي أسباب وجود الشيطان الذي هو موجود مدمّر يعمل ضدّ تكامل الإنسان ؟وهو في نفس الوقت موجود ذكي ،مكّار ،يثير العداوة والبغضاء .إلاّ أنّنا لو تفكّرنا قليلا فسوف ندرك أنّ وجود هذا العدو عامل مساعد لدفع التكامل الإنساني إلى الإمام وتقدّمه .
لا نذهب بعيداً ،فقوّات المقاومة التي تدافع دائماً وبشدّة ضدّ العدوّ تزداد قوّة يوماً بعد آخر .
والقادة والجنود المدرّبون الأقوياء هم الأشخاص الذين يقاتلون الأعداء بعنف في المعارك الكبيرة .
والسياسي المحنّك القوي هو الذي يتمكّن في الأزمات السياسيّة الشديدة أن يتصدّى للأعداء الأقوياء ويتغلّب عليهم .
وأبطال المصارعة الكبار هم الذين نازلوا مصارعين أقوياء أشدّاء ،إذن فلم العجب من أنّ عباد الله الكبار بجهادهم المستمر المرير ضدّ الشيطان ،يصبحون أقوياء يوماً بعد آخر .
فعلماء اليوم قالوا بشأن فلسفة وجود الميكروبات: لولا وجود هذه الميكروبات لكان جسم الإنسان ضعيفاً عديم الإحساس ،ويحتمل أيضاً توقّف نمو الإنسان بسرعة بحيث لا يتجاوز طوله الثمانين سنتيمتراً ،ولكان جميع البشر على شكل أقزام صغار ،وبهذا الشكل فإنّ مبارزة جسم الإنسان للميكروبات المهاجمة تعطيه قوّة وقدرة على النمو .
وكذلك الحال بالنسبة إلى روح الإنسان في جهادها ضدّ الشيطان وهوى النفس .
وهذا لا يعني أنّ الشيطان مكلّف بإغواء عباد الله ،فالشيطان كان طاهراً في بداية خلقه ،كبقيّة الموجودات ،ولكن الانحراف والانحطاط والتعاسة التي اُصيب بها إنّما كان برغبته وإرادته ،وبهذا فإنّ البارئ عز وجل لم يخلق إبليس منذ اليوم الأوّل شيطاناً ،وإنّما إبليس هو الذي أراد أن يكون شيطاناً ،وفي نفس الوقت فإنّ ممارساته الشيطانية لا تجلب الضرر لعباد الله المخلصين إطلاقاً ،بل قد تكون سلّماً لرقيّهم وسموّهم .
وفي النهاية يبقى هذا السؤال: لماذا تمّت الموافقة على طلبه في البقاء حيّاً ،ولماذا لم يُهلك في تلك اللحظة ؟
جواب هذا السؤال هو ما ذكرناه أعلاه ،وبعبارة أخرى:
إنّ عالم الدنيا هذا هو ساحة للاختبار والامتحان ( الاختبار الذي هو وسيلة لتربية وتكامل الإنسان ) وكما هو معروف فإنّ الاختبار لا يتمّ من دون مواجهة عدو شرس ومجابهة مختلف أنواع الأعاصير والمشاكل .
وبالطبع ،إن لم يكن هناك شيطان ،فإنّ هوى النفس ووساوسها هي التي تضع الإنسان في بودقة الاختبار ،ولكن حرارة هذه البودقة تزداد بوجود الشيطان ،لأنّ الشيطان سيكون في هذه الحالة العامل الخارجي المؤثّر على الإنسان ،وهوى النفس والوساوس ستكون العامل الداخلي .
2نيران الأنانية والغرور تحرق رأسمال الوجود
من الاُمور الحسّاسة جدّاً التي تلفت النظر في قضيّة طرد إبليس من رحمة الله ،هو مدى تأثير عاملي الأنانية والغرور على سقوط وتعاسة الإنسان ،إذ يمكن القول بأنّهما من أهمّ وأخطر عوامل الانحراف .وقد تسبّبافي لحظة واحدةفي هدم عبادة ستّة آلاف سنة ،وإنّهما كانا السبب وراء تدنّي موجود كان في صفّ ملائكة السماء الكبار إلى أدنى درجات الشقاء ،ويستحقّ لعنة الله الأبدية .
الأنانية والغرور يحجبان الحقيقة عن بصر الإنسان ،فالأنانية مصدر الحسد ،والحسد مصدر العداوة والبغضاء ،والعداوة والبغضاء سبب إراقة الدماء وارتكاب الجرائم .
الأنانية تدفع الإنسان إلى الاستمرار في ارتكاب الخطأ ،وتحبطفي نفس الوقتمفعول أيّ عامل للصحوة من الغفلة ،أي تحوّل بين ذلك العامل وبين الإنسان .
الأنانية والعناد يسلبان فرصة التوبة وإصلاح الذات من الإنسان ،ويغلقان أمامه كلّ أبواب النجاة ،وخلاصة الأمر فإنّ كلّ ما نقوله حول خطر هذه الصفات القبيحة والمذمومة يعدّ قليلا .
وكم هو جميل قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ): «فعدو الله إمام المتعصّبين ،وسلف المستكبرين ،الذي وضع أساس العصبية ،ونازع الله رداء الجبرية ،وادّرع لباس التعزّز ،وخلع قناع التذلّل ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره ؟ووضعه بترفّعه ؟فجعله في الدنيا مدحوراً ،وأعدّ له في الآخرة سعيراً » .