وحينذاك: ( حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ){[4012]} .
يا لهم من شهود ؟فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها ،لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال ،وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى .
وهنا يثار سؤال: هل تعني شهادة هذه الأعضاء من جسم الإنسان أنّ الله تبارك وتعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور ،وبالتالي القدرة على الكلام ؟
أم أنّ آثار الذنوب سوف تظهر في ذلك اليوم ( يوم البروز ) لأنّها مطبوعة عليها طوال عمر الإنسان ،كما نقول في تعبيراتنا الشائعة: إن صفحة وجهه تحكي وتخبر ما يخفيه فلان في سرّه ؟
أو أنّ الأمر يكون كما في حال الشجرة التي أوجد الله تعالى فيها الصوت وأسمعه موسى( عليه السلام ) ؟
في الواقع يمكن قبول كلّ هذه التفاسير ،وقد جاءت مبثوثة في تفاسير المفسّرين .
طبعاً لا يوجد مانع من أن يقوم تعالى بخلق الإدراك والشعور في الأعضاء ،فتشهد في محضر الله تعالى عن علم ومعرفة ،خصوصاً وأن ظاهر الآيات يشير للوهلة الأولى إلى هذا المعنى .وهو ما يعتقده البعض فيما يخص تسبيح وحمد وسجود ذرات العالم وكائنات الوجود بين يدي الله تبارك وتعالى .
والمعنى الثّاني محتمل أيضاً لأننا نعلم أنّ أي كائن في هذا العالم لا يفنى من الوجود ،وأنّ آثار أقوالنا وأفعالنا سوف تبقى في أعضائنا وجوارحنا ،ومن الطبيعي أن تعتبر «الشهادة التكوينية » هذه من أوضح الشهادات وأجلاها ،إذلا مجال لإنكارها ،كما في اصفرار الوجهالذي يعتبر عادةً دليلا على الخوفلا يمكن إنكاره ،واحمراره دليل على الغضب أو الخجل .
وإطلاق النطق على هذا المعنى يكون مقبولا أيضاً .
أمّا الاحتمال الأخير في أن تنطق الأعضاء بإذن ا لله تعالى دون أن يكون لها شعور بذلك أو يظهر منها اثر تكويني ،فإنّ ذلك بعيد ظاهراً ،لأنّه في مثل هذه الحالة لا تعتبر الحالة مصداقاً للشهادة التشريعية ولا مصداقاً للشهادة التكوينية ،فلا عقل هناك ولا شعور ولا الأثر الطبيعي للعمل ،وسوف تفقد قيمة الشهادة في المحكمة الإلهية الكبرى .
ومن الضروري الانتباه إلى أنّ قوله تعالى: ( حتى إذا ما جاءوها ) يبيّن أنّ شهادة أعضاء الإنسان تتمّ في محكمة النّار ،فهل مفهوم ذلك أنّ الشهادة تتمّ في النّار ،في حين أنّ النّار هي نهاية المطاف ،أم أنّ المحكمة تنعقد بالقرب من النّار ؟
الاحتمال الثّاني هو الأقرب كما يظهر .
ثمّ ما هو المقصود من ( جلود ) بصيغة الجمع ؟
الظاهر أنّ المقصود بذلك هو جلود الأعضاء المختلفة للجسم ،جلد اليد والرجل والوجه وغير ذلك .
أمّا الروايات التي تفسّر ذلك ب «الفروج » فهي في الحقيقة من باب بيان المصداق ،وليس حصر مفهوم الجلود في ذلك .
ومن جانب آخر ربّ سائل يسأل: لماذا تشهد العين والأذن والجلود فقط ،دون أعضاء الجسم الأُخرى ؟وهل الشهادة مقتصرة على هذه الأعضاء ،أو أنّ هناك أعضاء اُخرى تشهد ؟
ما نستفيده من الآيات القرآنية الأُخرى أنّ هناك أعضاء اُخرى في جسم الإنسان تشهد عليه ،إذ نقرأ في الآية ( 65 ) من سورة «يس » قوله تعالى: ( وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) .
وفي الآية ( 24 ) من سورة «النور » قوله تعالى: ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ) .
وهكذا يتضح أنّ هناك أعضاء اُخرى تقوم بالإدلاء بالشهادة ،إلاّ أنّ ما تذكره الآية التي بين أيدينا من أعضاء تعتبر في الدرجة الأولى ،لأن معظم أعمال الإنسان تتم بمساعدة العين والأذن ،وإنّ الجلود هي أول من يقوم بملامسة الأعمال .
/خ21