ثمّ تطرّقت الآية الأخيرة إلى نفي عبادة الأصنام وإبطال عقائد المشركين بدليل آخر ،فقالت: ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) ؟
إشارة إلى أنّ كل أنبياء الله قد دعوا إلى التوحيد ،ووقفوا جميعاً ضد الوثنية بحزم ،وعلى هذا فإن نبيّ الإِسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مخالفته الأصنام لم يقم بعمل لم يسبقه به أحد ،بل أحيا بفعله سنة الأنبياء الأبدية ،وإنّما كان عبدة الأصنام والمشركون هم الذين يسيرون على خلاف مذهب الأنبياء .
وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ السائل وإن كان نبيّ الإِسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،إلاّ أنّ المراد كل الأُمّة ،بل وحتى مخالفيه .
والمسؤولون هم أتباع الأنبياء السابقين ،أتباعهم المخلصون ،بل ومطلق أتباعهم ،إذ يحصل الخبر المتواتر من مجموع كلامهم ،وهو يبيّن دين الأنبياء التوحيدي .
وينبغي التذكير بأنّه حتى المنحرفين عن أصل التوحيدكالمسيحيين الذين يؤمنون بالتثليث اليوميتحدثون عن التوحيد أيضاً ،ويقولون: إنّ تثليثنا لا ينافي التوحيد الذي هو دين جميع الأنبياء !وبهذا فإنّ الرجوع إلى هذه الأُمم كاف في إبطال دعوى المشركين .
إلاّ أنّ بعض المفسّرين احتملوا احتمالاً آخر في تفسير هذه الآية مستوحى من بعض الروايات{[4216]} ،وهو أن السائل هو النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه وأن المسؤولين هم الأنبياء السابقون .ثمّ أضافوا: إنّ هذا الأمر قد تمّ في ليلة المعراج ،لأنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )قد التقى بأرواح الأنبياء الماضين ،ومن أجل تأكيد أمر التوحيد طرح هذا السؤال وسمع الجواب .
وأضاف البعض: إنّ مثل هذا اللقاء كان ممكناً بالنسبة إلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى في غير ليلة المعراج ،لأنّ المسافات الزمانية والمكانية ليست مانعاً ولا عائقاً في مسألة اتصال النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأرواح الأنبياء ،وكان بإمكان ذلك العظيم أن يتصل بهم في أية لحظة ،وفي أي مكان .
طبعاً ،ليس على هذه التفاسير أي إشكال عقلي ،لكن لما كان الهدف من الآية نفي مذهب المشركين ،لا طمأنة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )إذ أنه( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مستغرقاً في مسألة التوحيد ،ومشمئزاً من الشرك إلى الحدّ الذي لا يحتاج معه إلى سؤال ،ولم يكن التقاء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) الروحي بأرواح الأنبياء الماضين استدلالاً مقنعاً أمام المشركينإذن فالتّفسير الأوّل يبدوا أكثر ملاءمة ،والتّفسير الثّاني قد يكون إشارة إلى باطن الآية لا ظاهرها ،لأنّ لآيات القرآن ظهراً وبطناً .
وهناك أمر يستحق الانتباه ،وهو أنّ اسم ( الرحمن ) قد اختير في هذه الآية من بين أسماء الله سبحانه ،وهو إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن يترك هؤلاء الله الذي وسعت رحمته العامّة كل شيء ،ويتوجهون إلى أصنام لا تضر ولا تنفع ؟!
/خ45