التّفسير
( أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم ):
في هاتين الآيتين اللتين بهما تنتهي سورة الفتح إشارة إلى مسألتين مهمّتين من «الفتح المبين » أي «صلح الحديبيّة » إحداهما تتعلّق بعالميّة الإسلام والثانية تتعلّق بأوصاف أصحاب النّبي وخصائصهم وما وعدهم الله سبحانه به !
فالأولى منهما تقول: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً ) .
وهذا وعد صريح وقاطع من الله سبحانه في غلبة الإسلام وظهوره على سائر الأديان .
أي لا تعجبوا لو أخبركم اللّه عن طريق رؤيا نبيّه محمّد بالانتصار وأن تدخلوا المسجد الحرام بمنتهى الأمان وتؤدّوا مناسك العمرة دون أن يجرؤ أحد على إيذائكم ،كما لا تعجبوا أن يبشّركم الله بالفتح القريبفتح خيبر «فأوّل الغيث قطرة » وسيكون الإسلام باسطاً ظلاله في أرجاء المعمورة ويظهر على جميع الأديان ...
ولِمَ لا يكون كذلك ومحتوى دعوة النّبي هداية الله إذ «أرسله بالهدى » ودينه «دين الحق » ويستطيع كلّ ناظر غير منحاز أن يرى حقّانيته في آيات القرآن وأحكام الإسلام الفرديّة والاجتماعية والقضائية والسياسية !وكذلك تعليماته الأخلاقية والإنسانية .وأن يعرف علاقة النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالله حقّاً من خلال إخباره بالمغيّبات وتنبّؤاته التي تقع في المستقبل بصورة قاطعة .
أجلْ: إنّ منطق الإسلام المتين ومحتواه الغني الغزير يطهّر الأرض من أديان الشرك الملوّثة ،وتخضع له الأديان السماوية المحرّفة الأُخرى وأن يشدّ بأسلوبه الشائق{[4578]} القلوب إليه .
ولكن ما المراد ب «الظهور على الدين كلّه » ؟أهو الظهور المنطقي ؟!أم الظهور ( والغلبة ) العسكريان ؟!هناك اختلاف بين المفسّرين ..
يعتقد جماعة منهم أنّ هذا الظهور هو الظهور المنطقي والاستدلالي فحسب وهذا الأمر متحقق ،لأنّ الإسلام متفوّق من حيث الاستدلال والقدرة المنطقية على جميع الأديان .
ولكنّ جماعة آخرين فسّروا هذا الظهور بالغلبة الظاهرية وغلبة القوة ،وموارد استعمال كلمة «يظهر » ومشتقاتها أيضاً دليل على الغلبة الخارجية ...ولهذا يمكن القول أنّه بالإضافة إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليارد نسمة فإنّه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة «رسميّاً » وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهدي أرواحنا فداء إن شاء الله .
وكما نقل عن بعض أحاديث النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام »{[4579]} .
وسبق أن بحثنا في هذا المجال في نفس هذا التّفسير ذيل الآية ( 33 ) من سورة التوبة المشابهة لهذه الآية محل البحث .
وهنا ملاحظة تلتفت النظر إليها وهي أنّ البعض ذهب إلى أنّ التعبير بالهدى إشارة إلى استحكام العقائد الإسلامية ،في حين أنّ التعبير ب «دين الحق » ناظرٌ إلى حقّانية فروع الدين ،إلاّ أنّه لا دليل لدينا على هذا التقسيم ،والظاهر أنّ الهداية والحقّانية هما في الأصول والفروع معاً ...
وفي عود الضمير في «ليظهره » هل يعود على الإسلام أم على النبي ؟للمفسّرين احتمالان ،إلاّ أنّ القرائن تدل بوضوح على أنّ المقصود هو دين الحق ،لأنّه قريب من الضمير ،هذا من حيث النظم والسبك اللغوي ،كما أنّ المناسب ظهور الدين على الدين الآخر لا ظهور الشخص على الدينأيضاً.
وآخر ما نريد بيانه في شأن هذه الآية أنّ جملة ( كفى بالله شهيداً ) إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ هذا التوقع أو التنبّؤ لا يحتاج إلى أي شاهد ،لأنّ شاهده الله ،ورسالة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً لا تحتاج إلى شاهد آخر ،لأنّ الشاهد هو الله أيضاً ،وإذا لم يوافق سهيل بن عمرو وأمثاله على كتابة عنوان ( رسول الله ) بعد اسم النّبي محمّد فليس ذلك مدعاة للتأثر أبداً .