بل إنّ الله تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته ..( إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين ) .
فهذه الآيات التي هي في منتهى الوجازة والاختصار تكشف ستاراً عن الحقيقة التي يطلبها الجميع ويريدون معرفتها وتجعلنا أمام الهدف العظيم .
توضيح ذلك:
لا شكّ أنّ كلّ فرد عاقل وحكيم حين يقوم بعمل فإنّما يهدف من وراء عمله إلى هدف معيّن ،وحيث أنّ الله أعلم من جميع مخلوقاته وأعرفهم بالحكمة ،بل لا ينبغي قياسه بأي أحد ،فينقدح هذا السؤال وهو لِمَ خلق الله الإنسان ؟!هل كان يشعر بنقص فارتفع بخلق الإنسان ؟!هل كان محتاجاً إلى شيء فارتفع الاحتياج بخلقنا ؟
ولكنّنا نعلم أنّ وجوده كامل من كلّ الجهات ( ولا محدود في اللاّ محدود ) وهو غني بالذات !
إذاً ،فطبقاً للمقدّمة الأولى يجب القبول على أنّه كان له هدف ،وطبقاً للمقدّمة الثانيةينبغي القبول أنّ هدفه من خلق الإنسان ليس شيئاً يعود إلى ذاته المقدّسة .
فالنتيجة ينبغي أن يبحث عن هذا الهدف خارج ذاته ،هذا الهدف يعود للمخلوقين أنفسهم وأساس كمالهم ..هذا من جانب !
ومن جانب آخر ورد في القرآن تعابير كثيرة مختلفة في شأن خلق الإنسان والهدف منه !
فنقرأ في إحدى آياته: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا ){[4731]} ،وهنا يبيّن مسألة الامتحان للإنسان وحسن العمل على أنّه هدف ( من أهداف خلق الإنسان ) .
وجاء في آية أخرى ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً ) !.{[4732]}
وهنا يبيّن القرآن أنّ علمنا بعلم الله وقدرته هو الهدف من خلق السماوات والأرض ( وما بينهما ) .
ونقرأ في آية أخرى ( ولو شاء ربّك لجعل الناس اُمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم ){[4733]} .
وطبقاً لهاتين الآيتين فالهدف من خلق الإنسان هو رحمة الله .
والآيات محلّ البحث تستند إلى مسألة العبوديّة فحسب ،وتعبّر عنها بصراحة بأنّها الهدف النهائي من خلق الجنّ والإنس !
وبقليل من التأمّل في مفهوم هذه الآيات وما شابهها نرى أنّه لا تضادّ ولا اختلاف بين هذه الآيات ،ففي الحقيقة بعضها هدف مقدّمي ،وبعضها هدف متوسّط ،وبعضها هدف نهائي ،وبعضها نتيجة !.
فالهدف الأصلي هو «العبودية » وهو ما أشير في هذه الآيات محلّ البحث ،أمّا العلم والامتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله ،ورحمة الله الواسعة نتيجة العبودية لله .
وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة الله ،لكن المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة ؟!
فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك ( اليومية ) وأمثالها كالركوع والسجود والقيام والصلاة والصوم ،أو هو حقيقة وراء هذه الأمور وإن كادت العبادة الرسميّة كلّها أيضاً واجدة للأهميّة !؟
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي معرفة معنى كلمة «العبد » والعبودية وتحليلهما !
«العبد »: لغةً هو الإنسان المتعلّق بمولاه وصاحبه من قرنه إلى قدمه !..وإرادته تابعة لإرادته وما يطلب ويبتغيه تبع لطلب سيّده وابتغائه ،فلا يملك في قباله شيئاً وليس له أن يقصّر في طاعته .
وبتعبير آخر: إنّ العبوديةكما تبيّن معناها كتب اللغةهي إظهار منتهى الخضوع للمعبود ،ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام ،وليس ذلك سوى الله سبحانه !
فبناءً على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوجُ بلوغ الإنسان واقترابه من الله !والعبودية منتهى التسليم لذاته المقدّسة !
والعبودية هي الطاعة بلا قيد ولا شرط والامتثال للأوامر الإلهية في جميع المجالات !.
وأخيراً فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق ،ولا يسير إلاّ في منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتّى ( نفسه وشخصه ) .
وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ الله له الامتحان والاختبار لنيله ،ومنح الإنسان العلم والمعرفة ،وجعل نتيجة كلّ ذلك فيض رحمته للإنسان .
/خ58