التّفسير:
أسوة للجميع:
إنّ منهج القرآن ( من أجل التأكيد على تعاليمه القيّمة ) يعتمد في كثير من الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة ،وبعد التشديد السابق الذي مرّ بنا خلال آيات السابقة في تجنّب عقد الولاء لأعداء الله ،يتحدّث القرآن الكريم عن إبراهيم ( عليه السلام ) ومنهجه القدوة كنموذج رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصاً العرب منهم .
قال تعالى: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ){[5236]} .
إنّ حياة إبراهيم ( عليه السلام ) الذي هو كبير الأنبياء ،تلهمنا دروس العبودية لله ،والطاعة والجهاد في سبيله ،والوله والحبّ لذاته المقدّسة ،إنّ هذا النبي العظيم الذي كانت الأمة الإسلامية من بركة دعائه ،وهي معتزّة بالتسمية التي أطلقها عليهم ،هو لكم أسوة حسنة في هذا المجال .
والمراد من تعبير ( الذين معه ) هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلّة عددهم ،وهنا رأي آخر في تفسير ( الذين معه ) يرى أنّ المقصود هم الأنبياء الذين كانوا يشاركونه بالرأي ،أو أنّ المقصود هم الأنبياء المعاصرون له ،وهو احتمال مستبعد ،خاصّة إذا أخذنا ما يناسب المقام في تشبيه القرآن الكريم لرسول الإسلام محمّد بإبراهيم ( عليه السلام ) ،وتشبيه المسلمين بأصحابه وأعوانه .
وجاء في التواريخ أيضاً أنّ جماعة في «بابل » آمنوا بإبراهيم ( عليه السلام ) بعد مشاهدة المعاجز التي ظهرت على يديه ،وصاحبوه في الهجرة ،قال ابن الأثير في الكامل ( ثمّ إنّ إبراهيم والذين اتّبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم فخرج مهاجراً ){[5237]} .
ثمّ يضيف سبحانه لتوضيح هذا المعنى:{إذ قالوا لقومهم إنّا براءوا منكم وممّا تعبدون من دون الله}{[5238]}،وهكذا يكون الموقف القاطع والحاسم من جانب المؤمنين إزاء أعداء الله ،بقولهم لهم: إنّنا لا نرتضيكم ولا نقبلكم ،لا أنتم ولا ما تؤمنون به من معتقدات ،إنّنا نبتعد وننفر منكم ومن أصنامكم التي لا قيمة لها .
ومرّة أخرى يؤكّدون مضيفين: «كفرنا بكم » ،والكفر هنا هو كفر البراءة الذي أشير له في بعض الروايات ضمن ما ورد في تعدّد أقسام الكفر الخمسة{[5239]} .
ويضيفون للمرّة الثالثة مؤكّدين بصورة أشدّ:{وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتّى تؤمنوا بالله وحده} .
وبهذا الإصرار وبهذه القاطعية وبدون أي تردّد أو مواربة يعلن المؤمنون انفصالهم وابتعادهم ونفرتهم من أعداء الله حتّى يؤمنوا بالله وحده ،وهم مستمرّون في موقفهم وإلى الأبد ولن يتراجعوا عنه أو يعيدوا النظر فيه إلاّ إذا غيّر الكفّار مسارهم وتراجعوا عن خطّ الكفر إلى الإيمان .
ولأنّ هذا القانون العامّ كان له استثناء في حياة إبراهيم ( عليه السلام ) يتجسّد ذلك بإمكانية هداية بعض المشركين حيث يقول سبحانه معقّباً: إنّ هؤلاء قطعوا كلّ ارتباط لهم مع قومهم الكافرين حتّى الكلام الودود والملائم:{إلاّ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من الله من شيء} .
إنّ هذا الاستثناءفي الحقيقةكان في مسألة قطع كلّ ارتباط مع عبدة الأصنام من قبل إبراهيم ( عليه السلام ) وأصحابه ،كما أنّ هذا الاستثناء كانت له شروطه ومصلحته الخاصّة ،لأنّ القرائن تظهر لنا أنّ إبراهيم ( عليه السلام ) كان يرى في عمّه ( آزر ) استعدادا لقبول الإيمان .
ولمّا كان ( آزر ) قلقاً من آثام سابقته الوثنية وعبادته للأصنام أوعده إبراهيم ( عليه السلام ) أنّه إذا تبنّى طريق التوحيد فإنّه ( عليه السلام ) سيستغفر له الله سبحانه ،وقد عمل بما وعده به ،إلاّ أنّ آزر لم يؤمن وبقي على ضلاله ،وعندما اتّضح لإبراهيم أنّه عدوّ الله وسوف لن يؤمن أبداً ،لم يستغفر له ثانية وقطع علاقته به .
ولمّا كان المسلمون مطّلعين على منهج إبراهيم ( عليه السلام ) في تعامله مع «آزر » بصورة إجمالية ،فقد كان من المحتمل أن يكون هذا الموقف موضع احتجاج لأشخاص مثل ( حاطب بن أبي بلتعة ) حيث كانوا يقيمون العلاقات والارتباطات السريّة مع الكفّار ،ولهذا فالقرآن الكريم يقطع الطريق على مثل هذه التصوّرات ويعلنصراحةًأنّ هذا الاستثناء قد تمّ تحت شروط خاصّة ،وكان أسلوبا لاستدراج ( آزر ) إلى الهدى وإدخاله في الإيمان ،ولم يكن لأهداف دنيوية آنية أو مصلحة وقتية ،لذا يقول عزّ وجلّ في بيان هذا المعنى: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدو الله تبّرأ منه إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ){[5240]} .
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا الأمر كان استثناءً من التأسّي ب ( إبراهيم ) ،وقالوا يجب الإقتداء به في جميع الأمور إلاّ في استغفاره لعمّه آزر .
إلاّ أنّ هذا المعنى بعيداً جدّاً لأنّه:
أوّلا: كان ( عليه السلام ) أسوة في جميع الأمور ومن ضمنها إتّباع هذا المنهج ،وذلك بلحاظ أنّ الشروط التي توفّرت في ( آزر ) توفّرت أيضاً في بعض المشركين وعند ذلك لابدّ من إظهاره المودّة لهم وتهيئة الأجواء الطيّبة لهم ،وجذبهم للإيمان .
وثانياً: أنّ إبراهيم ( عليه السلام ) نبي معصوم من أنبياء الله العظام ومن المجاهدين اللامعين ،وأعماله كلّها أسوة للمؤمنين ،وعندئذ لا داعي لاستثناء هذه المسألة من التأسّي به فيها .
وخلاصة القول أنّ إبراهيم ( عليه السلام ) وأصحابه كانوا من أشدّ المخالفين والمحاربين للشرك ،ولابدّ لنا من الإقتداء بهم وأخذ الدروس والعبر من سيرتهم ،بما في ذلك ما يتعلّق بموقفه من «آزر » إذا توفّرت لنا نفس الشروط والخصوصيات ..{[5241]} .
وبما أنّ محاربة أعداء الله ،والصرامة والشدّة معهمخصوصاً مع تمتّعهم بقدرة ظاهريةسوف لن تكون فاعلة إلاّ بالتوكّل على الله تبارك وتعالى ،يضيف سبحانه في نهاية الآية:{ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} .
ونلاحظ ثلاثة أمور في هذه العبارة:
الأمر الأوّل: هو التوكّل ،الثاني هو: التوبة والإنابة ،الثالث: التأكيد على حقيقة الرجوع النهائي في كلّ شيء إليه سبحانه ،حيث أنّ كلّ أمر من هذه الأمور يكون علّة وبنفس الوقت معلولا للآخر ،فالإيمان بالمعاد والرجوع النهائي إليه سبحانه يوجب التوبة ،والتوبة تحيي روح التوكّل في النفس الإنسانية{[5242]} .
/خ6