ثمّ يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة ،يقول القرآن ...إنّ عقاب المجرمين لواقع ،ويوم القيامة لقريب: ( إنّا أنذرناكم عذاباً قربياً ) .
وما عمر الدنيا بكامله إلاّ ساعة من زمن الآخرة الخالد ،وكما قيل: ( كل ما هو آت قريب ) ،وتقول الآيات ( 57 ) من سورة المعارج ،في هذا المجال: ( فاصبر صبراً جميلاً إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً ) .
ويقول أمير المؤمنين( عليه السلام ): «كل آت قريب دان »{[5757]} .
ولِمَ لا يكون قريباً ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام: ( وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ){[5758]} .
وبعد أن وجّه الإنذار للناس ،يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة ،حين لا ينفع ندم ولا حسرة ،إلاّ مَن أتى اللّه بقلب سليم: ( يوم ينظر المرء ما دمت يداه يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ) .
وذهب بعض المفسّرين أنّ كلمة «ينظر » في الآية بمعنى «ينتظر » ،والمراد: انتظار الإنسان يوم القيامة لجزاء أعماله .
وفسّرها بعض آخر ب: النظر في صحيفة الأعمال .
وقيل: النظر إلى ثواب وعقاب الأعمال .
وكل ما ذكر مبني على إهمال مسألة حضور وتجسّم الأعمال في يوم القيامة ،ومعه ينتفي أيّ دور للتأويلات المذكورة .
وبنظرة إلى الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة يتبيّن لنا أنّ أعمال الإنسان تتجسم في هذا اليوم بصورة معينة ،وتظهر للإنسان فينظر إليها على حقيقتها فيسّر ويفرح عند رؤيته لأعماله الصالحة ،ويتألم ويتحسر عن رؤيته لأعماله السيئة .
وأساساً فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين .
كما نجد في الآية ( 49 ) من وسورة الكهف: ( ووجدوا ما عملوا حاضراً ) ،وكذا في آخر سورة الزلزال: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره ) .
في جملة «ما قدمت يداه » تغليب ،لأنّ كل إنسان يؤدي أعماله غالباً بيديه ،ولكنه لا يعني الحصر ،بل يشمل جميع ما ارتكبته الجوارح من لسان وعين وأذن ،في الحياة الدنيا .
وينبه القرآن الناس قبل تحقق ذلك اليوم: ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ){[5759]} .
وعلى أيّة حال ،فحينما يرى الكفّار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة ،حتى يقولون يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية مرحلة التراب في خلقنا ،وعندما خلقنا في الدنيا ،ثمّ متنا وتحولنا إلى التراب ،فيا ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد !
فهم يعلمون بأنّ التراب بات خيراً منهم ،لأنّه: تغرس به حبّة واحدة فيعطي سنابلاً ،وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الأخرى ،مهد لحياة الإنسان ،ومع ما له من فوائد جمّة فهو لا يضرّ قط ،بعكس ما كانوا عليه في حياتهم ،فرغم عدم صدور أيّة فائدة منهم ،فليس فيهم إلاّ الضرر والأذى !
نعم ،فقد يصل الأمر بالإنسان ،وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات ،لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة ،لما بدر منه كفر وذنوب !
وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين ،وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم ،يوم الفزع الأكبر ،فتقول الآية ( 56 ) من سورة الزمر: ( يا حسرتي على ما فرطت في جنب اللّه ) .
وتقول الآية ( 12 ) من سورة السجدة: ( فارجعنا نعمل صالحاً ) .
أو ما يقوله كل فرد منهمكما جاء في الآية المبحوثة: ( يا ليتني كنت تراباً ) .
/خ40