وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم ،تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال: ( والذي قدّر فهدى ) .
والمراد ب ( قدّر ) ،هو: وضع البرامج ،وتقدير مقادير الأمور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلاّ لأجلها .
والمراد ب ( هدى )هنا ،هي: الهداية الكونية ،على شكل غرائز وسنن طبيعية حاكمة على كل موجود ( ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية ) .
فمثلاً ،إنّ اللّه خلق ثدي المرأة وجعل فيه اللبن لتغذية الطفل ،وفي ذات الوقت جعل عاطفة الأمومة شديدة عند المرأة ،ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلاً غريزياً نحو ثدي أمه ،فكلّ هذه الاستعدادات والدوافع وشدّة العلاقة الموجودة بين الأم والابن والثدي مقدّر بشكل دقيق ،كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة .
وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات .
وبنظرة ممعنة لبناء كلّ موجود ،وما يطويه في فترة عمره من خطوات في مشوار الحياة ،تظهر لنا بوضوح الحقيقة التالية: ( ثمّة برنامج وتخطيط دقيق يحيط بكل موجود ،وثمّة يد مقتدرة تهديه وتعينه على السير على ضوء ما رسم له ) ،وهذه بحد ذاتها علامة جليّة لربوبية اللّه جلّ وعلا .
وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم السلام ،لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه .
وتوصلنا الآية ( 50 ) من سورة طه لهذا المعنى ،وذلك لمّا نقلت لنا سؤال فرعون إلى موسى( عليه السلام ) بقوله: ( ومَن ربكما يا موسى ) ،فأجابه( عليه السلام ): ( ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ) .
وقد فُهم قول موسى( عليه السلام ) بشكل مجمل في زمانه ،وحتى في زمان نزول الآية المباركة في صدر الدعوة الإسلامية ،ولكنّ ..مع دوران عجلة الأيّام ،وتقدم العلوم البشرية ،توصل الإنسان إلى معارف كثيرة ومنها ما يختص بمعرفة أنواع أحوال الموجودات الحيّة ،فتوضح قول موسى( عليه السلام ) أكثر فأكثر ،حتى كتبت الآف الكتب في موضوع ( التقدير ) و( الهداية التكوينية ) ،ومع ما توصل إليه العلماء من معلومات باهرة ،إلاّ إنّهم يؤكّدون على أنّ ما بقي خافي عليهم ،هو أكثر بكثير ممّا توصلوا لمعرفته !
/خ5