قوله تعالى:{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( 36 ) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ( 37 )} .
لله الحجة البالغة على الناس جميعا ؛فإنه ما من أمة من الأمم على وجه هذه الأرض إلا أرسل الله فيهم نذيرا منهم ليدعوهم إلى عبادة الله وحده وليقلعوا عن الشرك بكل صوره وأشكاله وأن يبتعدوا عن ( الطاغوت ) ويحذروه أشد تحذير .
و ( الطاغوت ) ،معناه: الطاغي المعتدي ،أو كثير الطغيان ،والمراد به هنا كل رأس في الضلال يصرف عن طريق الخير .وهو الشيطان والكاهن والساحر وكل معبود من دون الله من الجن والإنس والأصنام{[2525]} .
وينبغي التذكير بحقيقة الطاغوت في مفهومه المستجد ليكون المسلمون على بينة من أمرهم ،وأن يأخذوا لأنفسهم بالغ الحيطة والحذر مما يدور من حولهم من افتراءات ومؤامرات وخيانات ومكائد .وذلك بالنظر لتطور الأساليب في الإطغاء والإضلال ،وبالنظر للتغيير في وجوه الكفر مع أنها في حقيقتها وماهيتها ليست إلا الجحود والنكول عن منهج الله والإعراض عن دينه ،دين التوحيد والرحمة والعدل والمساواة .
وأساليب الإطغاء والإضلال كثيرة وفظيعة .وهي في هذا الزمان قد اتخذت منحى في غاية الفضاعة والباطل والنكر ،وغاية التأثير الماحق الذي يأتي على القلوب والضمائر فيبدد فيها معالم الصلة بالله ،ويأتي على الفطرة الإنسانية الأساسية فيسومها الإفساد والتمييع والانحراف ،وهو كذلك يأتي على العقول ليصب فيها الثقافات الضالة الجاحدة التي تزين للإنسان إعلان الحرب على منهج الله وعلى دينه الحق ،دين التوحيد والاستقامة والفضيلة كل ذلك بفعل الشياطين من طواغيت البشر الذين يصدون الناس عن منهج الله .منهج الإسلام .وذلك بمختلف الأسباب والوسائل في الخداع والتضليل والتشويه والافتراء ،واصطناع الشبهات والحملات الثقافية المكذوبة على الإسلام في عقيدته وتشريعه وتاريخه ومجتمعه .
إن ذلكم كله من فعل الطاغوت الذي حذرنا الله منه وحرضنا على اجتنابه كيلا نقع في شراكه ،شراك الكفر والظلم والضلال .
قوله: ( فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) أي من هذه الأمم التي بعث الله فيهم النبيين من أرشده الله إلى دينه الحق القويم فآمن وصدق واستقام .ومنهم من ثبتت عليه الضلالة والزيغ عن الحق لعناده وإصراره على الكفر والباطل .
وهذه من الوسائل الدقيقة التي خاض فيها العلماء من أهل السنة والمعتزلة .
وخلاصة القول في هذه المسألة عند أهل السنة: أن الله سبحانه هدى البعض وأضل البعض .فالهدى والضلال بيد الله سبحانه ،لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ؛فقد أمر الله الرسل بالتبليغ .وهذا التبليغ واجب عليهم والله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه .
وقال المعتزلة: إن الله لم يمنع أحدا من الإيمان ولم يوقعه في الكفر .والرسل ليس عليهم إلا التبليغ ،فما بلغوا ما كلفوا بتبليغه ؛كان الإنسان بعد ذلك مختارا ما يريده من الحق أو الضلال .
قوله: ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي إن كنتم تكذبون ما نذكره لكم عن حال الأمم السابقة وما حل بهم من البأس والتدمير بسبب جحودهم وعصيانهم فسيروا أنتم في الأرض التي كانت مقامهم ،والبلاد التي عمروها وبنوا فيها الحضارة وشيدوا فيها المباني والعمران ،ثم انظروا إلى آثار عذاب الله فيهم ،وكيف أعقبهم تكذيبهم وعصيانهم ما حاق بهم من الهلاك والسوء .وسوف تعلمون إذ ذاك صدق ما نقوله لكم لكي تعتبروا وتتعظوا وتتزجروا عن الشرك والضلال .