وبعد ذكر وظيفة الأنبياء ( البلاغ المبين ) ،تشير الآية التالية باختصار جامع إلى دعوة الأنبياء السابقين ،بقولها: ( ولقد بعثنا في كل أُمّة رسولا ) .
«الأُمّة »: من الأم بمعنى الوالدة ،أو بمعنى: كل ما يتضمّن شيئاً آخر في دخله ،( ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف «أُمّة » .
ويتأكد هذا المعنى من خلال دراسة جميع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن والبالغة ( 64 ) مورداً .
ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياء( عليهم السلام ) ،بالقول: ( أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت ){[2075]} .
فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأُولى لتحركهم هي الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الطاغوت ،وذلك لأنّ أُسس التوحيد إِذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أيُّ برنامج إصلاحي .
«الطاغوت »: ( كما قلنا سابقاً ) صيغة مبالغة للطغيان ..أيْ التجاوز والتعدي وعبور الحد ،فتطلق على كل ما يكون سبباً لتجاوز الحد المعقول ،ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان ،الصنم ،الحاكم المستبد ،المستكبر وعلى كل مسير يؤدي إلى غير طريق الحق .
وتستعمل الكلمة للمفرد والجمع أيضاً وإِنْ جُمعت أحياناً ب ( الطواغيت ) .
ونعود لنرى ما وصلت إِليه دعوة الأنبياء( عليهم السلام ) إلى التوحيد من نتائج ،فالقرآن الكريم يقول: ( فمنهم مَنْ هدى اللّه ومنهم مَنْ حقت عليه الضلالة ) .
وهنا علت أصوات من يعتقد بالجبر استناداً إلى هذه الآية باعتبارها المؤيدة لعقيدتهم !
ولكن قلنا مراراً إِنّ آيات الهداية والضلال إِذا جمعت وربط فيما بينها فلن يبقى هناك أيُّ إِبهام فيها ،ويرتفع الالتباس من أنّها تشير إلى الجبر ويتّضح تماماً أن الإِنسان مختار في تحكيم إِرادته وحريته في سلوكه أيّ طريق شاء .
فالهدايةة والإِضلال الإلهيين إِنّما يكونا بعد توفر مقدمات الأهلية للهداية أو عدمها في أفكار وممارسات الإِنسان نفسه ،وهو ما تؤكّده الكثير من آيات القرآن الكريم .
فاللّه عز وجل ( وفق صريح آيات القرآن ) لا يهدي الظالمين والمسرفين والكاذبين ومَنْ شابههم ،أما الذين يجاهدون في سبيل اللّه ويستجيبون للأنبياء( عليهم السلام ) فمشمولون بألطافه عزَّ وجلّ ويهديهم إلى صراطه المستقيم ويوفقهم إلى السير في طريق التكامل ،بينما يوكل القسم الأوّل إلى أنفسهم حتى تصيبهم نتائج أعمالهم بضلالهم عن السبيل .
وحيث أنّ خواص الأفعال وآثارهاالحسنة منها أو القبيحةمناللّه عز وجل ،فيمكن نسبة نتائجها إِليه سبحانه ،فتكون الهداية والإِضلال إلهيين .
فالسنّة الإِلهية اقتضت في البداية جعل الهداية التشريعية ببعث الأنبياء ليدعوا الناس إلى التوحيد ورفض الطاغوت تماشياً مع الفطرة الإِنسانية ،ومن ثمّ فمن يبدي اللياقة والتجاوب مع الدعوة فرداً كان أم جماعة يكون جديراً باللطف الإِلهي وتدركه الهداية التكوينية .
نعم ،فها هي السنّة الإِلهية ،لا كما ذهب إِليه الفخر الرازي وأمثاله من أنصار مذهب الجبر من أنّ اللّه يدعوا الناس بواسطة الأنبياء ،ومن ثمّ يخلق الإِيمان والكفر جبراً في قلوب الأفراد ( من دون أيّ سبب ) والعجيب أنّه لإجمال للتساؤل ولا يسمح في الاستفهام عن سبب ذلك من اللّه عز وجل .
فما أوحش ما نسبوا إليه سبحانه ..إنّما صورة لا تتفق مع العقل والعاطفة والمنطق ؟!
والتعبير الوارد في الآية مورد البحث يختلف في مورد الهداية والضلال ،ففي مسألة الهداية ،يقول: ( فمنهم من هدى اللّه ) ،أمّا بالنسبة للقسم الثّاني ،فلا يقول: إنّ اللّه أضلهم ،بل إنّ الضلالة ثبتت عليهم والتصقت بهم: ( ومنهم من حقّت عليه الضلالة ) .
وهذا الاختلاف في التعبير يمكن أن يكون إِشارة لما في بعض الآيات الأخرى ،والمنسجم مع ما ورد من روايات ..وخلاصته:
إنّ القسم الأعظم من هداية الإِنسان يتعلق بالمقدمات التي خلقها اللّه تعالى لذلك ،فقد أعطى تعالى: العقل ،وفطرة التوحيد ،وبعث الأنبياء ،وإِظهار الآيات التشريعية والتكوينية ،ويكفي الإِنسان أن يتخذ قراره بحرية وصولا للهدف المنشود .
أمّا في حال الضلال فالأمر كلّه يرجع إلى الضالين أنفسهم ،لأنّهم اختاروا السير خلاف الوضعين التشريعي والتكويني الذي جعلهم اللّه عليه ،وجعلوا حول الفطرة حجاباً داكناً وأغفلوا قوانينها ،وجعلوا الآيات التشريعية والتكوينية وراء ظهورهم ،وأغلقوا أعينهم وصموا أذانهم أمام دعوة الأنبياء( عليهم السلام ) ،فكان أنْ آل المآل بهم إلى وادي التيه والضلال ..أوَليس كل ذلك منهم ؟
والآية ( 79 ) من سورة النساء تشير إلى المعنى المذكور بقولها: ( ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) .
وروي في أصول الكافي عن الأمام علي بن موسى الرضا( عليه السلام ) ،في إِجابته على سؤال لأحد أصحابه حول مسألة الجبر والاختيار ،أنّه قال: «أكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين ،قال اللّه عزَّ وجلّ: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ،وبقوتي أديت فرائضي ،وبنعمتي قويت على معصيتي ،جعلتك سميعاً بصيراً ،ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك ،وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ،وأنت أولى بسيئاتك منّي »{[2076]} .
وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إِيقاظ الضالين وتقوية روحية المهتدين ،بالقول: ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) .
فالآية دليل ناطق على حرية إِرادة الإِنسان ،فإِنْ كانت الهداية والضلال أمرين إِجباريين ،لم يكن هناك معنىً للسير في الأرض والنظر إلى عاقبة المكذبين ،فالأمر بالسير بحد ذاته تأكيد على اختيار الإِنسان في تعيين مصيره بنفسه وليس هو مجبر على ذلك .
وثمّة بحوث كثيرة وشيقة في القرآن الكريم بخصوص مسألة السير في الأرض مع التأمل في عاقبة الأُمور ،وقد شرح ذلك مفصلا في تفسيرنا للآية ( 137 ) من سورة آل عمران .
/خ37