قوله تعالى:{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} .
ذلك نهي غليظ عن معصية فظيعة كبرى وهي قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق .وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ،أو زنا بعد إحصان أو تقتل قودا بنفس ،وفي ذلك ورد في الصحيحين أن رسول الله ( ص ) قال:"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس ،والزاني المحصن ،والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
والأصل في قتل النفس التحريم .وإزهاق النفس بغير حق جريمة فظيعة لا يفوقها في البشاعة والنكر غير الإشراك بالله .وفي الحديث:"لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم "والنفس المؤمنة ذات شأن وقدر عظيمين في ميزان الله .والله جل وعلا يجب أن يُعبد في الأرض حق العبادة .ومن عبدته المؤمنون من البشر الذين يؤمنون به إيمانا ويسبحون بحمده في كل آن ،ويذكرونه قياما وقعودا وفي كل الأحوال .
ذلكم هو الإنسان المؤمن الذي كتب الله أن يصان دمه فلا يُعتدى عليه أيما اعتداء .وما الاعتداء على المسلم بالقتل إلا ذروة العدوان الصارخ وقمة المعاصي والموبقات التي تودي بالمجرمين القتلة إلى جهنم وبئس المصير .
قوله: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) ( قتل مظلوما ) .أي قتل دون حق .وذلك بغير ما تبين من أسباب وهي القتل والزنا والردة .والولي من الولْي ،بسكون اللام ،ومعناه القرب .والمقصود ههنا: النسب الذي هو البعضية ؛فكل من ينتسب إليه بنوع من أنواع البعضية فهو ولي .
واختلف العلماء في المراد بالولي ؛فقد قيل: يراد به الوارث مطلقا ؛فكل من ورث القتيل فهو وليه .واختلفوا في دخول النساء في الدم ؛فقد قيل بدخولهن لعموم الآية .وقيل: بعدم دخولهن .
قوله: ( سلطانا ) معناه حجة ،يجوز له بمقتضاها قتل القاتل ؛فهو بذلك إن شاء قتل ،وإن شاء عفا على الدية ،وإن شاء عفا مطلقا ؛أي من غير دية ؛وذلك لما صح عن رسول الله ( ص ) قال يوم فتح مكة:"ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: بين أن يقتل ،أو يأخذ الدية "على أن تشريع السلطنة لولي القتيل المظلوم على هذه الكيفية لهو أنف وأصلح للناس انسجاما مع فلسفة الإسلام المراعية للفطرة البشرية المختلفة لدى الناس .وهم ما بين راغب في انتقام لنفسه من الجاني ،أو راغب في ماله يأخذه دية عن قتيله وكفى ،أو راغب في عفو مطلقا .لكن التوراة لم تقرر غير القتل تشريعا لجناية القتل العمد .وعلى النقيض منها الإنجيل ؛إذ لم يقرر القصاص ولا الدية .وإنما أوجب العفو مطلقا .فكل من الكتابين إنما يراعي صنفا من البشر دون الأصناف الأخرى .لكن شريعة الإسلام قد راعت كل أصناف البشر على اختلاف رغباتهم وطبائعهم وأهوائهم .
قوله: ( فلا يسرف في القتل ) أي لا يقتل غير قاتله ؛فقد كان أهل الجاهلية إذ قتل رجل رجلا ،عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه وترك القاتل ؛فنهى الله عن ذلك ؛لأنه إسراف في القتل .وقيل: لا يقتل بدل وليه اثنين ،كما كانت العرب تفعله .
وقيل: لا يمثل بالقاتل .وقيل: كل ذلك إسراف منهي عنه .
قوله: ( إنه كان منصورا ) الهاء ،عائدة على القتل .وقيل: على الولي .وقيل: على المقتول .{[2680]} والراجح أنها عائدة على الولي ؛لأنه أقرب مذكور ،ولأنه ولي دم المقتول ،وقد سلطه الله على القاتل الظالم ،فليكتف بهذا القدر فإنه يكون فيه منصورا ولا ينبغي أن يطمع فيما هو أكثر{[2681]} .