قوله تعالى: (وإذا قلتم يا موسى لن نومن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى عليه السلام ،أنهم لن يومنوا له أو يصدقوه إلا إذا رأوا ربهم جهرة أي علانية أو عيانا ،وهي من الجهر أو المجاهرة أو الجهار بمعنى الظهور أو الإظهار .
وقد ورد قولان في حقيقة الذين اجترحوا هذه المقولة (لن نومن لك حتى نرى الله جهرة) .
وأحد هذين القولين: أن ذلك في السبعين من بني إسرائيل الذين اخارهم موسى لميقات ربه ،فلما أسمعهم موسى كلام الله عتوا وأسرفوا في التمرد وغالوا مغالاة يتورع عنها الخاشعون الذين يتقون الله فقالوا: (لن نومن لك حتى نرى الله جهرة) وذلك مطلب لا جرم ينطوي على غاية الاجتراء الفاجر أو التطاول الأثيم المغالي الذي ينم على طبع لجوج متوقح ،خصوصا إذا علمنا أن هؤلاء السبعين كانوا من خيرة بني إسرائيل وصفوتهم الذين اصطفاهم موسى لإعلان التوبة نيابة عن قومهم فوق الجبل المقدس .
هؤلاء هم صفوة القوم وطليعتهم في العلم والورع ،لا يتورعون عن مطالبتهم السقيمة وهي أن يروا ربهم عيانا علانية ،وهي مطالبة لا تتيسر للبشر في هذه الدنيا كما ذهب أكثر أهل العلم فضلا عن أن ذلك لا يليق بمثل هذه الصفوة من خيار بني إسرائيل الذين انتخبهم موسى لميقات الله على الجبل ،إنه لا يليق بهم ،وهم الطليعة المؤمنة المصطفاة من القوم أن يطلبوا مثل هذا المطلب المتطاول الذي لا تشفعه أية أثارة من تواضع أو تورع أو حياء .
وثاني هذين القولين: أن موسى لما رجع من عند الله ومعه الألواح قد كتب فيها التوراة وفيها علم وهداية ونور ،أمرهم أن يهتدوا بهديها وأن يأتمروا بما فيها من أوامر أو زواجر ،فقال له قومه مقولتهم هذه العاتية المقبوحة: (لن نومن لك حتى ترى الله جهرة) .
قوله: (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) الصاعقة هي الصيحة ،وقيل النار ،أو هي النازلة من الرعد ،وكلها معان متشابهة من حيث العذاب الحارق المدمر الذي لا يصيب شيئا إلا دكه دكا وحرفه تحريفا ،لما قال قوم موسى مقالتهم العاتية سواء قالها السبعون أو عامتهم أصابهم الله بنوازل من الصواعق الحارقة التي تدمرهم تدميرا ،وقد كان ذلك وهم ينظر بعضهم بعضا فكلما أصابت الصواعق فريقا منهم نظر إليهم بقيتهم بعين الوجل كالذي يغشى عليه من الموت .