قوله تعالى:{أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ( 28 ) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}
ذكر أنن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تأذى ببعض الزوجات ؛إذ سألنه شيئا من عرض الدنيا .وقيل: زيادة في النفقة ،فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهنّ وتخييرهن بين الدنيا والآخرة .
فقد روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ،فأذن لأبي بكر فدخل ،ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ،فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ،فقال: والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقال: يا رسول الله ،لو رأيتُ بنتَ خارجة سألتني النفقةََ فقمتُ إليها فوجأتُ{[3726]} عنقها ،فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ""هن حولي كما ترى يسألنني النفقة "فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ،وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها .كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده !فقلن: والله لا نسأل الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده ،ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين يوما ،ثم نزلت هذه الآية{أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ{لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} قال: فبدأ بعائشة فقال:"يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك "قالت: وما هو يا رسول الله ؟فتلا عليها الآية فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي !بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ،وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت .قال:"لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ،ولك بعثني معلما مُيَسرا ".{[3727]}
قوله:{قل لأزواجك} فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجات قد دخل بهن ،وأولهن: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب .وكانت قبله زوجة لأبي هالة وولدت منه هند بن أبي هالة .وكانت قبل أبي هالة زوجة لعتيق بن عائذ .ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة ،وكان لها حين توفيت خمس وستون سنة ،وهي أول امرأة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده منها غير إبراهيم .
ثم سودة بنت زمعة العامرية أسلمت قديما وبايعت ،وكانت زوجة لابن عمها واسمه السكران بن عمرو وكلاهما هاجرًا إلى الحبشة فلما قدما مكة مات زوجها .وقيل: مات بالحبشة ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر بها .
ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق ،تزوجها رسول الله بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث سنين وبقيت عنده تسع سنوات ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة ولم يتزوج بكرا غيرها .
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية ،تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة ،فراجعها ،توفيت في خلافة عثمان وهي ابنة ستين سنة .
ثم أم سلمة ،واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية ،تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع من الهجرة وكان ابنها عمر صغير . وقد قُبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة .
ثم أم حبيبة ،واسمها رملة بنت أبي سفيان ،كانت زوجة لعبيد الله بن جحش الذي مات بأرض الحبشة على النصرانية فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف ،وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة .
ثم زينب بنت جحش الأسدية ،وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ،تزوجها النبي بالمدينة سنة خمس من الهجرة ،وتوفيت سنة عشرين وهي بنت ثلاث وخمسين .
ثم زينب بنت خذيمة بن الحارث الهلالية ،وكانت تسمى في الجاهلية أم المساكين ؛لإطعامها إياهم .مكثت عند النبي ثمانية أشهر وتوفيت في حياته ودفنت بالبقيع .
ثم جويرية بنت الحارث المصطلقية أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها ،فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ،توفيت سنة ست وخمسين وهي ابنة خمس وستين .
ثم صفية بنت حيي بن أخطب أصابها النبي يوم خيبر واصطفاها لنفسه وأسلمت وأعتقها .وماتت سنة خمسين ودفنت بالبقيع .
ثم ريحانه بنت زيد بن عمرو من بني النَّضير أعتقها النبي وتزوجها في سنة ستٍّ وماتت وهو راجع من حجة الوداع فدفنها بالبقيع .
ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية ،تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَرف على عشرة أميال من مكة سنة سبع من الهجرة ،وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم{[3728]}
قوله:{إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} المراد بالحياة الدنيا وزينتها ،ما فيها من السعة والنضارة ووجوه النعمة .
وذلك أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيِّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن تتحصل لهن عندهم البحبوحة والسعة ،وبين الصبر على ما عنده من ضيق العيش ورقة الحال ولهن عند الله في مقابل ذلك خير الجزاء .فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة .ويذلك اجتمع لهن في كنفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الدنيا من حسن الذكر وطيب الثناء يوم القيامة ،وفي الآخرة ما أعده لهن من عظيم المنزلة في عليين بجوار خير زوج في العالمين .{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} أي أَقبِلن إليّ أعطكن متعة الطلاق .وهي واجبة للتي لم يُدخَل بها ولم يُفرض لها حين العقد صداق .أما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة .والمتعة للمرأة تقدر بدرع{[3729]} وخمار{[3730]} وملحفة{[3731]} وذلك على حسب السعة والإقتار ،وقد مضى تفصيل المتعة في سورة البقرة .
قوله:{وأسرّحكنّ} أي أطلقكن .وتسريح المرأة ،تطليقها .والاسم السراح ،بالفتح{[3732]}
قوله:{سراحا جميلا} أي طلاقا للسُّنة من غير ضِرار ولا منع لها من واجب .وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه .وثمة قولان في ذلك .أحدهما: أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترنَ البقاء وهو قول عائشة وآخرين .
ثانيها: أنه خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ،وبين الآخرة فيمسكهن لتكون لهن المنزلة العليا ،ولكم يخيرهن في الطلاق .وهو قول الحسن وقتادة ،وهو مروي عن علي ( رضي الله عنه ) والقول الأول الراجح ؛لما روته عائشة من خبر ثابت في الصحيحين قالت:"خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه طلاقا "ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور به بين البقاء والطلاق .
واختلف العلماء أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة أو لا يلزم بذلك شيء ؟فقد ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم أنه لا يلزمه طلاق ،لا طلقة واحدة ولا أكثر .وقيل: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة .وهو قول الحسن البصري والليث .وروي مثله عن مالك .واحتجوا بأن قوله لها: اختاري ،كناية عن إيقاع الطلاق فإذا ما أضافه إليها وقعت طلقة .والراجح القول الأول ؛لما أخرجه الصحيحان عن عائشة قالت:"خيرنا رسول الله صلى اله عليه وسلم ،فاخترناه ،فلم يعد علينا طلاقا "قال ابن المنذر: وحديث عائشة يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا .
واختلفوا في المخيرة إذا اختارت نفسها فهل ذلك طلقة رجعية أو بائنة ؟فقد قيل: طلقة رجعية يملك زوجها رجعتها .وقد روي عن عمر وابن مسعود وابن عباس .وهو قول ابن أبي ليلى والثوري والشافعي .
وقيل: إذا اختارت نفسها فتلك طلقة واحدة بائنة .وهو قول الحنفية .وهي رواية عن مالك{[3733]} .