/م28
التّفسير
أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا !
لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاُولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ ب ( اُمّهات المؤمنين ) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسؤوليات ثقيلة ،فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي اُمّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها ؟
وهكذا ظَنَنَّ ،فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ،ويعطى لهنّ ما ناله المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ،في الوقت الذي يعيش هنا وهناك اُناس في غاية العسرة والشظف .
وبغضّ النظر عن ذلك ،فإنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) يجب أن لا يكون لوحده اُسوةً للناس بحكم الآيات السابقة ،بل يجب أن تكون عائلته اُسوة لباقي العوائل أيضاً ،ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ،فليس النّبي ( صلى الله عليه وآله ) ملكاً وإمبراطوراً ليكون له جناح خاصّ للنساء ،ويُغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة .
وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصُفّة ( وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي ) حتّى الصباح ،ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ،وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبي ( صلى الله عليه وآله ) لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاُخرى .
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ،حتّى أنّهنّ قلن: لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجاً من قومنا غيرك{[3371]} .هنا اُمر النّبي( صلى الله عليه وآله ) أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ،ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ،فخاطبت الآية الاُولى من الآيات أعلاه النّبي ( صلى الله عليه وآله ) وقالت: ( يا أيّها النّبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا ) .
«أمتعكن » من مادّة متعة ،وكما قلنا في الآية ( 236 ) من سورة البقرة ،فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة .والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ،وإن لم يكن المهر معيّناً فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ،ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ .
«السراح » في الأصل من مادّة ( سرح ) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ،و«سرّحت الإبل » ،أي: أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ،ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ،وتأتي أحياناً كناية عن الطلاق ،ويطلق ( تسريح الشعر ) على تمشيط الشعر وترجيله ،وفيه معنى الإطلاق أيضاً .وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل » في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقاً مقترناً بالإحسان ،وليس فيه جبر وقهر .
وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ،وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقاً بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق ؟أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ،فإن أردن الفراق أجرى النّبي ( صلى الله عليه وآله ) صيغة الطلاق ،وإلاّ يبقين على حالهنّ ؟
ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ،وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ،وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبي ( صلى الله عليه وآله ) ،لأنّه لا يجري في سائر الناس ،لا يبدو صحيحاً ،بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق .
وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ،إلاّ أنّ القول الثّانيأي الفراق عن طريق الطلاقيبدو أقرب لظواهر الآيات ،إضافةً إلى أنّ لتعبير ( اُسرحكنّ ) ظهوراً في أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يقدّم على تسريحهنّ ،خاصّة وأنّ مادّة «التسريح » قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم ( سورة البقرة / الآية 229 ){[3372]} .
/خ31