قوله تعالى:{ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} .
يأمر الله عباده المؤمنين بحسن الأدب في مجالس العلم والذكر ،فما ينبغي أن تكون بينهم أثرة أو فظاظة في الأسلوب والتخاطب ،وإنما يأمرهم ربهم بالتعاطف والتآلف والتواضع فيما بينهم ،ليكونوا على الدوام إخوة مؤتلفين متحابين .
وفي سبب نزول هذه الآية قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .
وقيل: أنزلت هذه الآية يوم الجمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق ،وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ،فأتى ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ،فرد النبي صلى الله عليه وسلم ،ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ،فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر:"قم يا فلان فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر ،فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟{[4484]} فوالله ما عدل على هؤلاء قوم أخذوا مجالسهم ،وأحبهم القرب من نبيهم أقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهو قوله:{ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} تفسحوا ،من الفسحة وهي السعة .وفسح له في المجلس أي وسع له ،وتفسحوا في المجلس وتفاسحوا أي توسعوا{[4485]} .
والآية عامة في سائر المجالس التي يجتمع فيها المسلمون للخير والبر والصلاح سواء جلسوا للذكر أو العلم أو الحرب .فكل مسلم هو أحق بمكانه الذي سبق إليه ، وفي الحديث:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به "ومع ذلك فإن على المسلم أن يفسح لأخيه في المجلس وهو أن يوسع له ،ليمكنه الجلوس فيه من أجل الاستفادة وكسب الأجر ،وفي النهي عن أن يقام المرء من مجلسه ليجلس فيه آخر ،روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ليجلس فيه آخر ،ولكن تفسحوا وتوسعوا "وعلى هذا إذا قعد الرجل في موضع من المسجد فليس لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه ،وفي ذلك روى مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول:"افسحوا ".
قوله:{يفسح الله لكم} أن يوسع الله منازلكم في الجنة ،أو في قبوركم ،أو يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة .
قوله:{وإذا قيل انشزوا فانشزوا} انشزوا ،من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض .ونشز الرجل ،أي ارتفع في المكان ،وإنشاز عظام الميت رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض ،ونشزت المرأة ،أي استعصت على بعلها وأبغضته{[4486]} .
والمعنى: إذا دعيتم إلى خير أو معروف أو إصلاح فأجيبوا ،أو إذا قيل لكم: انهضوا إلى الصلاة أو إلى قتال العدو ،أو قيل لكم: تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا .
قوله:{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتو العلم درجات} وذلك تكريم من الله للعلم وأهله ،فهم أولو درجات عالية في الآخرة ولهم من الله في الدنيا حسن الثواب .
وإنما يكون التكريم والاعتبار للناس بحسب ما في قلوبهم من الإيمان والعقيدة والتقوى ،وبما أوتوه من رصيد العلم في مختلف علوم الإسلام ،وغير ذلك من العلوم الكونية التي لا مناص للمسلمين من تعلمها والاستفادة منها لتقووا بها على رد العدوان من المعتدين ،ودفع الشر والكيد عن أنفسهم من الظالمين المتربصين .
ويستفاد من الآية أيضا أن المؤمن العالم خير من المؤمن غير العالم ،وإن كان في كل منهما خير .وبذلك فإن العالم لذو شأن عظيم في ميزان الله، وكذلك العلماء المؤمنون فإنهم أولو كرامة ظاهرة ومميزة يفوقون بها غيرهم درجات ،وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم:"فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب "وعنه صلى الله عليه وسلم:"يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ،ثم العلماء ،ثم الشهداء".
قوله:{والله بما تعملون خبير} الله خبير بأهل الإيمان والعلم والطاعة الذين يخشون ربهم ويخافون عقابه ويبتغون بعلمهم وجه ربهم{[4487]} .