{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11} .
تفسحوا: بمعنى افسحوا ووسعوا لبعضكم .
انشزوا: انهضوا .
تعليق على الآية:
{يا أيها الذين آمنوا إِذَا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا ...} ، وما فيها من تأديب وتلقين وما ورد في ذلك وفي فضل العلماء من أحاديثعبارة الآية واضحة وفيها:
أمر للمسلمين بالتوسيع والتفسح لبعضهم في المجالس حتى ولو اقتضى ذلك النهوض منها إذا طلب منهم .
وتنويه وتطييب بالذين يفعلون ذلك .
والآية فصل جديد ،وقد روى المفسرون أن المسلمين كانوا يتحلقون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويتزاحمون على التقرب منه فكان يأتي آخرون فلا يجدون مكانا فيظلون وقوفا ،وكان النبي يرغب في تكريم بعض كبار أصحابه أو رجال بدر في مجالسه ،فيطلب من أحد الجالسين إعطاء مجلسه لغيره فيستثقل ويكره ،فأنزل الله الآية ليكون فيها تأديب وتطييب{[2144]} .
والرواية وجيهة ومتسقة مع روح الآية كما يبدو .ولعل بعض الناس كانوا إذ لا يجدون مكانا يجلسون لحدتهم ،فيكون ذلك وسيلة للتسارر والتناجي أو لعل المنافقين بخاصة كانوا يفعلون ذلك ،فتوخت الآية إفساح المجالس حتى لا يكون ضيقها عذرا لهؤلاء .وإذا صح هذا فتكون المناسبة قائمة بشكل ما بين الآية وسابقاتها ،ويكون وضعها بعدها بسبب ذلك إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة .
وعلى كل حال فإن هناك تناسبا موضوعيا بين الآية وسابقاتها ،من حيث احتواؤها تأديبا وتعليما للمسلمين ،ويصح أن يكون ذلك بسبب وضعها بعده أيضا .والله تعالى أعلم .
وإطلاق الخطاب في الآية يجعل التأديب والتنويه والتطييب الذي احتوته عام الشمول في المواقف والمناسبات المماثلة كما هو واضح .
ويمكن أن يلمح في الفقرة الثانية بالإضافة إلى معنى التطييب معنى الإشادة بطبقتي العلماء والورعين وإيجاب تقديمهما على غيرهما ،كما يمكن أن يلمح فيها تلقين روحي بليغ المدى بكون رفعة القدر إنما يجب أن تلتمس بالخلق الكريم والذوق السليم والأدب في المجالس وبالعقل والعلم ،وليس بالمظاهر والبروز في المجالس .
ولقد أورد المفسرون{[2145]} أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآية وما فيها من تأديب وتلقين .منها ما ورد في الكتب الخمسة ،ومنها ما ورد في غيرها ،وما ورد في غيرها لا يبعد عما ورد فيها ،منها حديث عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ،ولكن تفسحوا وتوسعوا ){[2146]}، وحديث عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ،ولكن ليقل افسحوا ){[2147]}، وحديث عن أبي هريرة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ،ولكن افسحوا يفسح الله لكم ){[2148]}، وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن عمرو قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ){[2149]}، وقد روى الإمام أبو عبيد بن القاسم بن سلام عن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يخلف الرجل الرجل في مجلسه إذا قام ،وإذا رجع فهو أحق به ){[2150]} .
وليس من تناقض بين النهي عن أن يقيم الرجل من مجلسه والأمر بالنشوز إذا قيل للجالسين انشزوا .فهذا على الأغلب قد منح للنبي صلى الله عليه وسلم لإجلاس الناس في مراتبهم ،ويظل منوطا بمن يكون في مقامه بعده على ما هو المتبادر .أما حديث ابن عمر فالمتبادر منه هو النهي عن الجلوس في مجلس شخص قام لضرورة على أن يعود .
ولقد تطرق المفسرون إلى القيام للقادم احتراما ،وترتيب الناس في مجالسهم فرووا روايات عديدة أخرى ،منها ما يفيد ترخيص القيام ؛حيث روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأوس حينما استدعى زعيمهم سعد بن معاذ ليحكم في قضية بني قريظة: ( قوموا لسيدكم ){[2151]}، ومنها ما يفيد منع القيام ،حيث روي ( أن معاوية خرج على ابن الزبير وابن عامر ،فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ،وفي رواية: من سره ،بدلا من أحب ){[2152]}،وقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي أمامة قال ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا ،فقمنا إليه فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ){[2153]}، وروى الترمذي عن أنس قال ( لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعملون من كراهيته لذلك ){[2154]}، وجاء في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ،ولكن حيث يكون صدر المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم ،فالصديق عن يمينه وعمر عن يساره وبين يديه عثمان وعلي ؛لأنهما كان يكتبان الوحي ){[2155]}، وقد روي حديث عن ابن مسعود ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ،ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ){[2156]}، وقد روى الشيخان والترمذي والنسائي حديثا عن أبي واقد قال ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس حوله إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان فوقفا على رسول الله ،فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها ،وأما الآخر فجلس خلفهم ،وأما الثالث فأدبر ذاهبا ،فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه ،وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه ،وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه ){[2157]}، ولقد أراد بعضهم التوفيق بين الحديث الأول والحديثين الثاني والثالث من جواز القيام للقادم وعدمه ،فقالوا: إن السنة هي كراهية القيام ،وإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام لسعد ابن معاذ قد كان لحكمة اقتضاها الظرف الخاص .ولقد أورد المفسر القاسمي فتوى الإمام ابن تيمية فيها كثير من الوجاهة .فقد قرر الإمام ما تقدم من جهة وحسن القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك ؛تلقيا له من جهة .وقال من جهة ثالثة: إذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ،ولو ترك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه أو قصد لخفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة ،فالأصلح أن يقام له ؛لأن ذلك إصلاح لذات البين وإزالة للتباغض والشحناء ،فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما .
ولقد تطرق المفسرون كذلك إلى فضل الذين أوتوا العلم بمناسبة ورود العبارة في الآية ،فرووا أحاديث متعددة منها حديث عن أبي الدرداء قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ،وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ،وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له ،وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ،وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ،وإنما ورثوا العلم ،فمن أخذه أخذ بحظ وافر ){[2158]} ومكنها حديث ابن عبد الله ابن عمرو جاء فيه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ،ويرغبون إليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقالا: كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه ،أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ،وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ،ويعلمون الجاهل ،فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلما ){[2159]} .
ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن ،فحيث وجدها فهو أحق بها .وفي رواية: من طلب العلم كان كفارة لما مضى ){[2160]}،وروى عن ابن أبي أمامة قال ( ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما: عابد والآخر عالم ،فقال: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ،ثم قال: إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ،وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير ){[2161]} .
وفي كل ما تقدم عبر وحكم ومواعظ وتلقين للمسلمين في كل زمان ومكان .