سبب النّزول:
نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ،والآلوسي في روح المعاني ،وجمع آخر من المفسّرين ،أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة، وكان رسول الله يومئذ في ( الصفّة ) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ،فجاء ناس من أهل بدر ،قد سبقوا إلى المجالس ،فقاموا حيال رسول الله فقالوا: السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته .فردّ النبي عليهم ،ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ،فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ،فعرف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يحملهم على القيام ،فشقّ ذلك على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر !قم يا فلان ،قم يا فلان ،فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصارأهل بدرفشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ،وعرف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الكراهة في وجوههم ،فقال المنافقون: ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء !إنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ،فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه ..فبلغنا أنّ رسول الله قال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه » فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً ،فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية{[5152]} .
التّفسير:
احترام أهل السابقة والإيمان:
تعقيباً على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك ( النجوى ) في المجالس ،يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه: ( يا أيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا{[5153]} يفسح الله لكم ) .
«تفسّحوا » من مادّة ( فسح ) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ،وبناءً على هذا ،فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ،وهذه واحدة من آداب المجالس ،فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ،كي لا يبقى في حيرة وخجل ،وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ،والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ،وإثارة الحساسيات والعداوة .
والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ،الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ،بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ،حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة .
جملة ( يفسح الله لكم ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ،وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ،ويلتزمون بها ،وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوماً واسعاً ،وتشمل كلّ سعة إلهيّة ،سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ،أو في المال والرزق ،ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ،لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا .
وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحياناً بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ،وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى: ( وإذا قيل انشزوا فانشزوا ){[5154]} أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا .
ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ،لأنّ القادمين أحياناً يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ،وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ،وأسباب اُخرى .
وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ،كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ،حيث كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أمر المجموعة التي كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ،وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة .
كما فسّر بعض المفسّرين ( انشزوا ) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ،حيث تشمل أيضاً القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاُخرى ،إلاّ أنّه من خلال التمّعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس » ،فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ،فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة .
ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ،حيث يقول عز وجل: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اُوتوا العلم درجات ){[5155]} .
وذلك إشارة إلى أنّ الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ،فإنّه لهدف إلهي مقدّس ،واحتراما للسابقين في العلم والإيمان .
والتعبير ب ( درجات ) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ،إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ،الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معاً ،أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ،وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى .
وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ،والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء .والتظاهر ..فيضيف تعالى في نهاية الآية: ( والله بما تعملون خبير ) .
ملاحظات:
1مقام العلماء:
بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ،إلاّ أنّ لها مفهوماً عامّاً ،وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان: الإيمان ،و العلم .وبالرغم من أنّ «الشهيد » في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّاً ،إلاّ أنّنا نقرأ حديثاً للرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال: «فضل العالم على الشهيد درجة ،وفضل الشهيد على العابد درجة ..وفضل العالم على سائر الناس ،كفضلي ،على أدناهم »{[5156]} .
وعن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نقرأ الحديث التالي: «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة »{[5157]} .
ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ،خصوصاً ليلة الرابع عشر من الشهر ،حيث يكتمل البدر ويزداد ضوءه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم ..هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب »{[5158]} .
والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ،ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ،لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات .
وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ،لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ،والمسافة بين درجة وأخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة{[5159]} .
وواضح أيضاً أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ،بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ،ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ): «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ،ثمّ العلماء ،ثمّ الشهداء »{[5160]} .
وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما: الإيمان والعلم ،أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ،ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر .
2آداب المجلس في القرآن الكريم:
أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ،ومنها آداب التحيّة ،والدخول إلى المجلس ،وآداب الدعوة إلى الطعام .وآداب التكلّم مع الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ،خصوصاً ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان{[5161]} .
وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ،ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة .
وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمّة الأطهار ( عليهم السلام ) حول آداب المعاشرة مع الآخرين ،جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ،ج8 ،حيث رتّبها في 166 باباً .
وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية .حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ،وطريقة كتابة الرسائل ،بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ،وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ،والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ،إلاّ أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حيث يقول: «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ،والاستغناء عنهم ،فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ،ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك »{[5162]} .