قوله تعالى:{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} .
قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم .
وفي رواية عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله{[1241]} .
والمعنى أن المسلمين قد نهوا عن سبب آلهة المشركين ،كيلا تستفزهم غيرتهم الفاسدة على أصنامهم فيسبوا الله{عدوا} أي جهلا أي جهلا واعتداء وتجاوزا إلى الباطل .
ويستدل من ذلك المصلحة إذا كانت تفضي إلى مفسدة أعظم منها .وفي مثل ذلك جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ملعون من سب والديه "قالوا يا رسول الله !وكيف يسب الرجل والديه ؟قال:"يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ".
وفي هذه الآية دليل على وجوب الحكم بسد الذرائع في كل حال .والذرائع جمع ذريعة ،وهي الوسيلة .ومعنى سد الذرائع هو حسم مادة وسائل الفساد دفعا له .فإذا كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة تفضي إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل .وذلك مذهب المالكة والحنبلية .وجملته أن سد الذرائع ما ظاهره مباح ويتوصل به إلى محرم .وهذا أصل من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام ،على الخلاف في ذلك{[1242]} .
واستدلوا على جواز الاحتجاج بسد الذرائع ببعض النصوص منها: ما رواه الترمذي عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دع ما يريبك إلى ما لا يربيك ".
ومنها ما رواه البخاري عن النعمان بن بشير ،قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الحلال بين والحرام بين .وبينهما أمور مشتبهة .فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك .ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ،والمعاصي حمى الله .ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ".
ومنها: الإجماع من الصحابة .وذلك أن عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسر لنا الربا فاتركوا الربا والريبة ،بمحضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك عليه أحد .
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد والقبور ولعن من فعل ذلك ونهي عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد .وكذلك نهى عن الصلاة إليها أو عندها ،وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها .ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها .
ومنها: أن الله تعالى نهى عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاعل بالتجارة عن حضور الصلاة .
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن ،أو السفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين ،سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطبع .
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المقرض من أخذ الهدية أو قبولها حتى يحسبها من دينه ،لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا ...إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها على تحريم الحلال المفضي إلى الحرام{[1243]} .
قوله:{عدوا بغير علم} عدوا مصدره وفعله عدا يعدو عدوانا .ومنه قول القائل: عدا فلان على فلان إذا ظلمه واعتدى عليه .والمقصود أن المشركين يسبون الله ظلما وعدوانا وجهالة بالله وبقدره العظيم وبما يستوجبه من يقين الإيمان وكامل الإخبات والطاعة .
قوله:{كذلك زينا لكل أمة عملهم} الكاف في اسم الإشارة صفة للمصدر .
والتقدير: زينا تزيينا مثل ذلك .أي زينا لأهل الطاعة الطاعة ولأهل الكفر الكفر .وهو قول ابن عباس .ولعل التأويل الراجح للآية هو أن مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من الأمم عملهم من الخير والشر .وذلك بإحداث القدرة والاستعداد فيهم لفعل ما يمكنهم فعله .
قوله:{ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} بعد هذا التزيين للناس فإن مردهم ومصيرهم إلى الله ،وذلك يوم البعث حيث الحساب والجزاء .وإذ ذاك يوفقهم الله على ما أسلفوه من أعمال في الدنيا وعلى حقيقة مصيرهم في هذا اليوم الذي يجدون فيه ما يستحقونه من جزاء{[1244]} .