قوله تعالى:{ويوم يحشرهم جميعا يمعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولاؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثوكم خلدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ( 128 ) وكذلك نولي بعض الظلمين بعضا بما كانوا يكسبون} .
قوله:{ويوم يحشرهم جميعا} يوم ،منصوب بفعل مقدر .وتقديره: اذكر يوم نحشرهم .وقيل: منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر .أي اذكر ،أيضا جميعا ،منصوب على الحال من الهاء والميم في{يحشرهم}{[1275]} .
في الآية يذكر الله بذلك اليوم المشهود الذي يجمع فيه عبدة الأوثان والأصنام .أولئك الذين اتخذوا الأنداد شركاء لله في الخضوع والعبادة – يجمعهم مع أعوانهم وأنصارهم من الشياطين الذين أغووهم والذين أوحوا لهم بالزخرف من الكلام المموه الخادع .هؤلاء جميعا يحشرهم الله يوم القيامة حشرا .والتعبير بالحشر يوحي بحال هؤلاء المحشورين المقبوحين من الشقاوة والتعس وانتفاء الكرامة والاعتبار .لا جرم أن الضالين المشركين من الشياطين وأتباعهم من البشر الفاسق مجموعون بين يدي الله في الآخرة ليجدوا هوان الحشر وما فيه من ضيق وإعانات وتحقير ومهانة .
قوله:{يمعشر الجن قد استكثرتم من الإنس} معشر الجن أي جماعتهم .والمراد بهم هنا الشياطين .والمعنى أن الله يقول لهذا الفريق المضل من الجن على سبيل التقريع والتوبيخ: لقد أضللتم كثيرا من الإنس بإغوائكم إياهم وإفسادكم لهم .وقيل: أكثرهم من إغوائهم وإضلالهم .
قوله:{وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض} استمتع من الاستمتاع وهو التلذذ والانتفاع{[1276]} والأولياء من الإنس يراد بهم الأتباع من الناس الذين أطاعوا الشياطين وساروا في سبيل الضلال الذي سيقوا إليه بإغواء الشياطين من الجن لهم .وكل فريق من الطرفين قد استمتع بالآخر .فاستمتاع الجن من الإنس أنهم تلذذوا بطاعة الإنس لهم ،إذ أطاعوهم فيما دعوهم إليه من الفسق والعصيان والغواية ومخالفة أوامر الله فضلا عن تعظيم الإنس لهم في استعاذتهم بهم .واتخاذهم لهم قادة ورؤساء .وأما انتفاع الإنس من الجن فهو أن الجن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إلى مختلف الأهواء والمنكرات .إلى غير ذلك من وجوه الشهوات الرخيصة التي تهبط لها وتتهاوى أمامهم عزائم الأنذال من الفاسقين والعصاة ،أتباع الشيطان في كل زمان .
قوله:{وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} أي بلغنا الموت بعد كل الذي حصل من الاستمتاع والتلذذ بالشهوات والمحظورات وكل وجوه الحرام .وذلك بفعل التزيين والإغراء من الشيطان الذي أضلنا وأغوانا .وقيل: يقولون ذلك يوم القيامة إقرارا بذنوبهم ومعاصيهم بعد أن أطاعوا الشياطين واتبعوا الهوى والشهوات وكذبوا بالرسل والبعث .قالوا ذلك وهم تحيط بهم الأهوال والفظائع واليأس من كل جانب .لقد قالوا مقالتهم وهم في غاية الإحساس بالندامة والحسرة والإياس موقنين أنه لن يجديهم بعد ذلك ندم ولا توبة وأن مصيرهم المحتوم إلى الثبور وعظائم الأمور .
قوله:{قال النار مثوكم خلدين فيها} مثواكم: منزلكم .والمثوى معناه المنزل .ثوى بالمكان ،أي أقام فيه{[1277]} ويجوز أن يكون المثوى مصدرا بمعنى الثواء وهو الإقامة .وخالدين ،حال النار مكان إقامتكم في حال الخلود{[1278]} وذلك جواب فاصل وقاطع من الله لا معقب له من أحد .وهو أن النار منزلكم ومحل إقامتكم الدائم يوم القيامة ،إذ تثوون إليها ثواء اللابثين بغير فراق ولا مبارحة ،لا جرم أن النار لهي دار مقام للفاسقين من البشر الذين أضلهم الشيطان ليظلوا فيها يكابدون العذاب بكل ألوانه وصنوفه .نعوذ بالله من ذلك عوذا كبيرا .
قوله:{إلا ما شاء الله} الاستثناء منقطع ،فهو ليس من الخلود في النار .والمعنى أنهم خالدون في النار باستثناء المدة التي ما بين مبعثهم من قبورهم ومصيرهم إلى جهنم .أي باستثناء مقدار حشرهم في قبورهم ومقدار لبثهم في الحساب .
قوله:{إن ربك حكيم عليم} الله حكيم في معاقبة هؤلاء الفاسقين المعرضين ،أتباع الشياطين .حكيم في تعذيبهم وما لهم من المصير المهين .بل إنه حكيم في كل ما يصدر عنه من أفعال وأحكام .وهو كذلك عليم بما يستحقه هؤلاء العصاة من الجزاء .