{اسْتَكْثَرْتُم}: حشدتم الكثير من الأتباع بإكثاركم من إغوائهم وإضلالهم ،فجعلتم الكثير منهم يدورون في فلككم لتنفيذ أوامركم ،والاستكثار: أخذ الكثير ،ويستعمل كذلك في طلب الكثير .
وهذه صورةٌ من صور الحوار في يوم القيامة بين الله وعباده ،من أجل الإيحاء بأنّ الله قد أقام الحجة على الجنّ والإنس في ما أرسل إليهم من رسلٍ وفي ما أنزل عليهم من كتب ،بيّن لهم فيها حدود المسؤولية ونتائجها الإيجابية والسلبيّة ،وأنهم سيواجهون موقف الاعتراف بما قاموا به من انحرافٍ عن خط الله ،فيشهدون على أنفسهم .إنها صورةٌ تهزّ ضمير الإنسان وشعوره ،ليتراجع عمّا هو فيه ،في ما أعطاه الله من فرص في الحياة الدنيا قبل أن يواجه حسابه يوم القيامة أمام الله .
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} الجن والإِنس ،فيوجه خطابه إلى الجنّ الذين كان لهم التأثير الكبير في إغواء بعض الناس وإضلالهم ،في ما كانوا يزيِّنون لهم من المعاصي والانحرافات ،فيتبعونهم ويطيعونهم في ما يأمرونهم به وينهونهم عنه{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} وحشدتم لأنفسكم الكثير من الأتباع منهم ،وهذا هو الظاهر من معنى الاستكثار الذي لوحظ على سبيل الكناية في كثرة التابعين للجنّ من الإنس في ميدان الضلال ،وربما كان المراد من الجنّهناالشياطين التي توسوس للناس ،وكأنَّ غرض السؤالهناهو تسجيل الموقف الذي يدينهم أمام الله في ما قاموا به من عمليات الإغواء والإضلال بشكلٍ كبير .
{وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ} وهم الذين كانوا يوالونهم موالاة الطاعة ،ويعتبرون أنفسهم من الأتباع لهم{رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} فكان للجن من الإنس منفعة السيطرة عليهم ،والحصول على ما يحبون لأنفسهم من تنفيذ مخططاتهم الشيطانيّة ،وكان للإنس من الجنّ منفعة الاستمتاع بالشهوات التي اكتشفوها من خلال عملية الإغواء .
وربّما كان هذا الأسلوب لوناً من ألوان الدفاع عن الجنّ ،حيث إن المسألة كانت مسألة مشاركةٍ في الانتفاع من الطرفين ،وعملية مبادلةٍ في النتائج الذاتية التي حصل عليها كلٌّ منهما ،{وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} فقد أعطيتنا امتداد الحياة ،فخضنا فيها واستمتعنا ،ثم جاءنا الموت الذي كان النهاية لذلك كله .
وربما توحي هذه الفقرة بحالة الاستسلام التي يحسّ بها هؤلاء في موقفهم أمام الله:{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} لأنكم عصيتم وتمردتم على الله من دون أن يكون لكم حجةٌ في ذلك .وربما كانت كلمة الاستثناء{إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} ،واردةً في موضوع الخلود في النار ،فقد تكون لبعض الأشخاص حالة تخفيفٍ بسبب بعض ما يعلمه الله منه من ظروفه التي قد تعطيه نوعاً من المبررات والأعذار{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} والله أعلم .