قوله:{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثلكم} الدابة: كل شيء ماش على الأرض .من دب يدب دبيبا .أي سار سيرا لينا{[1158]} وهذا الكلام مستأنف قد سيق لبيان كمال قدرة الله تعالى وحسن تدبيره وحكمته وإحاطة علمه الذي يشمل الأشياء والكائنات جميعا .وهو برهان قائم ظاهر آخر يكشف عن عظمة الله وعن قدرته البالغة وعن صدق نبوة هذا المبعوث الكريم .وذلكم البرهان هو أنه ما من دابة على اختلاف أنواعها ،إذ تمشي على الأرض ،ولا طائر يجوب الفضاء وهو يطير بجناحيه سابحا مطوحا في جو السماء{إلا أمم أمثلكم} أي هي جماعات مختلفة من أنواع الدواب والطيور كأمثالكم في أن الله خلقهم وتكفل بأرزاقهم .فما تركهم سائبين هملا من غير عناية .وهم كذلك أمثالكم في الجريان على سنن الله وعلى تدبيره الرباني السديد ،فضلا عن كونها دائمة التسبيح بحمد الله .وفي ذلك من الدلالة البلجة على عظمة الصانع وعلى وحدانيته ما يستنفر العقول للتفكر والإدكار .
قوله:{ما فرطنا في الكتب من شيء} التفريط: التقصير والتضييع والإغفال{[1159]} والمراد بالكتاب فيه وجهان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ .فقد أثبت الله فيه علم الأولين والآخرين وكتب فيه كل ما يقع من حوادث منذ الأزل البعيد حتى الأبد الأبيد .
ثانيهما: أنه القرآن .وهو الراجح والأولى .لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق .والمعهود من الكتاب عند المسلمين هو القرآن .فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن{[1160]} فقد بين الله في هذا الكتاب الحكيم كل ما يحتاج إليه العباد من أمر الدين والدنيا مما ينفعهم ويكفل لهم الحياة الكريمة والعيش الآمن .
على أن ما حواه القرآن من بيان لمشكلات العباد ومصالحهم جاء إما مفصلا ،وإما مجملا فما كان مفصلا جاء مبينا مستفيضا ومشروحا .وما كان مجملا فهو المثابة لأمهات القضايا في العقيدة والتشريع والكون وحياة الإنسان مما يتضح عن طريق السنة والإجماع أو القياس أو النظر .وقوله:{من شيء} من ،زائدة .كقوله: ما جاء من أحد .أي ما جاء أحد .وقيل: من للتبعيض .فالمعنى: ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف .قوله:{ثم إلى ربهم يحشرون} في المراد بالحشر هنا قولان: أحدهما: أن الحشر هنا مراد به الموت .فالله تعالى يحشر الدواب والطير بموتها .
وثانيهما: أن المراد بالحشر الجمع لبعث الساعة .وقيام القيامة .إذ يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة سواء فيهم البهائم والدواب والطير وكل شيء ثم يقضي الله بينهم جميعا بالعدل حتى يبلغ عدل الله في ذلك يومئذ مبلغه .فيأخذ للجماء ،وهي عديمة القرن ،من القرناء ،وهي ذات القرن .ثم يقول لها جميعا: كوني ترابا .ومن أجل ذلك يقول الكافر ،إذ يرى ذلك:{يا ليتني كنت ترابا} وفي ذلك أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء{[1161]} من الشاة القرناء "ويدل ذلك على أن البهائم تحشر يوم القيامة .وهذا القول أصح ،لقوله تعالى:{وإذا الوحوش حشرت} .