/م38
وذكر الرازي في وجه النظم ومناسبة الآية الأولى لما قبلها وجهان:
الأول- أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين لا جرم ما أظهرها . وهذا الجواب إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى يراعى مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك ، فبين أن الأمر كذلك وقرره بأن قال:{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} في وصول فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم ، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس ، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ، ولامتنع أن يبخل بها ، مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها ، وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين ، فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم .
( الوجه الثاني في كيفية النظم ) قال القاضي إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون ، بين أيضا بعده بقوله:{ وما من دابة ...} في أنهم يحشرون .والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضا حاصل في حق البهائم .اه بنصه .
والقارئ يرى أن الوجه الثاني الذي اعتمده القاضي من كبار مفسري المعتزلة ليس مبنيا على مسألة خاصة بهم .وأما الوجه الأول الذي اعتمده الرازي من كبار مفسري الأشعرية ومتكلميهم فهو مبني على مذهب المعتزلة وفريق من أهل السنة دون الأشعرية في رعاية مصلحة المكلفين في أحكام الباري تعالى وأفعاله المتعلقة بشؤونهم .والإمام الرازي قد أثبت المصلحة هنا وفي مواضع أخرى ولكنه كثيرا ما يردها أو يرد ما بني عليها .والذي عليه المحققون أن مسألة الصلاح والأصلح ثابتة لا ريب فيها وأن الخطأ والضلال إنما هو في قولهم أن ذلك واجب عليه سبحانه وتعالى وليس عندنا نقل صحيح صريح عن المعتزلة في ذلك ، ونقل المخالف لا يعتد به كما قال الفقهاء .وإنما يقال في كل ما ثبت له من صفات الكمال وما تتعلق به من الأفعال المطردة أنها واجبة له لا عليه ، لأنه سبحانه هو الأعلى فلا يعلو عليه شيء في شيء ومذهب الأشعرية أن مراعاة المصلحة ليست من الكمال الواجب له تعالى ويحتجون على ذلك بأمراض الأطفال والبهائم .وفي هذه الحجة بحث لا محل له هنا .وقد أشار الرازي بقوله:« ويتفضل عليهم بذلك » إلى أن مراعاة المصلحة تفضل لا يجب اطراده .فهو مما يجوز في حقه لا مما يجب في حقه تعالى .
وقال أبو السعود في أول تفسير الآية:كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته عز وجل وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على تنزيل الآية وإنما لا ينزلها محافظة على الحكم البالغة اه ونقل الآلوسي مثله عن الطبرسي ، وقد أخذه أبو السعود من البيضاوي .
{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} ( الدابة ) ما يدب على الأرض من الحيوان .والدب والدبيب المشي الخفيف – زاد بعضهم – مع تقارب الخطو و ( الطائر ) كل ذي جناح يسبح في الهواء وجمعه طير ، كراكب وركب .( والأمم ) جمع أمة وهي الجيل أو الجنس من الأحياء ، وهذا أحد معاني اللفظ ، وقال الراغب:الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد ، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا ، وجمعها أمم .اه وذكر بعده الآية ، وكان ينبغي أن يزيد:أوصفات وأفعال واحدة .
والمعنى أنه لا يوجد نوع ما من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم أيها الناس .كما يقول عالم النبات ما من شجرة قامت على ساقها وتشعبت في الهواء أغصانها ولا نجم نبت في هذه الأرض إلا فصائل لها صفات وخواص مشتركة يمتاز بها بعضها عن بعض .فالدابة والطائر هنا مفرد اللفظ مراد به الجنس اللغوي .تقول طائر الحمام وطائر النحل ، ودابة الحمير ودابة الأرض ، كما تقول شجرة التين وشجرة الزقوم .وناهيك بوصف الدابة بكونها في الأرض ووصف الطائر بكونه يطير بجناحيه .فهو يشعر بذلك .وإن كان في وصف الطائر بما ذكر تنصيص على الحقيقة وسد لطريق المجاز ، فقد تجوزوا بالطير عن السرعة كما قال الحماسي:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زرافات ووحدانا{[905]}
ولاحتمال التجوز بدون القيد المذكور مناسبة قوية وهي عطف الطائر على الدابة إذ هي من الدب الذي هو المشي الخفيف كما تقدم ويقابله السريع الذي يشبه بالطيران .وذكر بعضهم لوصف الطائر بما ذكر نكتة أخرى وهي تصوير هيئة الطيران الغريبة الدالة على قدرة الباري وحكمته لذهن السامع والقارئ ، وهو حسن لا ينافي ما تقدم ، ولا تزاحم بين النكت المتفقة ، ولا بين الحكم المؤتلفة ، ويرى الكثيرون أنه لا مانع من جعل كلمتي دابة وطائر على أصل معناهما وهو الدلالة في سياق النفي على استغراق الأفراد ، وإنما أخبر عنها بالأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم .
وأما السمك فهو أقرب إلى الطير منه إلى الدواب وله أجنحة قد تسمى الزعانف أكثرها صغير ومنها ما هو كبير كجناح الخفاش ، وهو يطير في الماء غالبا وعلى سطحه أحيانا ، وقد يسف إلى قاعه فيلاصق أرضه في سيره فيكون أشبه بالزاحف منه بالطائر ، ولعل حكمة ترك التصريح به قلة من كان يراه ممن نزلت السورة في مخاطبتهم قبل كل أحد بالدعوة إلى الإسلام وإقامة الدلائل عليهم وهم مشركو مكة .ولمثل هذا المعنى خص دواب الأرض بالذكر لأنها هي التي يراها المخاطبون عامة ، ويدركون فيها معنى المماثلة ، دون دواب الأجرام السماوية ، القابلة للحياة الحيوانية ، التي أعلمنا بوجودها في قوله:{ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} [ الشورى:27] فهي قد ذكرت هنا بالتبع لذكر خلق السموات والأرض ، فكان الإعلام بها نافلة وفائدة زائدة على ما يقوم به دليل الآية ، وهي من أخبار عالم الغيب وردت بعبارة تشعر بما يدل عليها من القياس على عالم الشهادة ، وإنما تظهر صحة هذا القياس حتى لغير المؤمن بالقرآن بعد البحث وسعة العلم بالهيئة الفلكية .
وقد علم أهل هذا العلم من المتأخرين أن بعض هذه الكواكب ( كالمريخ ) فيه ماء ونبات ، فلا بد أن يكون فيه أنواع من الحيوان ، بل فيه إمارات على وجود عالم اجتماعي صناعي كالإنسان ، منها ما يرى على سطحه بالمرآة المقربة ( المرقب – التلسكوب ) من الجداول المنظمة والخلجان ، فالآية التي نفسرها ترشدنا بهذا وبوصف أنواع الحيوان بأنها أمم أمثالنا إلى البحث في طبائع الأحياء لنزداد علما بسنن الله تعالى وأسراره في خلقه ، ونزداد بآياته فيها إيمانا وحكمة وحضارة وكمالا ، ونعتبر بحال المكذبين بها ، الذين لم يستفيدوا مما فضلهم الله به على الحيوان شيئا فكانوا أضل من جميع أنواعه التي لا تجني على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه .
وقد اختلف المفسرون في وجه المماثلة بين الدواب والطير وبين الإنسان ففي الدر المنثور عن مجاهد في قوله تعالى:{ إلا أمم أمثالكم} قال أصنافا مصنفة تعرف بأسمائها – وعن قتادة:الطير أمة والإنس أمة والجن أمة – وعن السدي:خلق أمثالكم ، فالأولان على أن المماثلة بالصفات المشتركة التي يتميز به بعض الأنواع والأصناف عن بعض ، وهي التي نسميها المقومات والمشخصات ، والثالث على أن المماثلة في أصل الخلق ؛ أي كونها مخلوقة مثلنا ، ويتبع ذلك ما يلازمه من حكمة الله وتدبيره فينا وفيها .ونقل الواحدي عن ابن عباس أن المراد بالمماثلة أنها تعرف الله وتوحده وتسبحه وتحمده كما يفعل المؤمنون منا ، وتوسع بعض الصوفية في هذا وما قبله فقالوا إنها عاقلة ومكلفة وإن لها رسلا منها .وقيل إن المماثلة بإحصاء الكتاب لجميع الأحوال المتعلقة بحياتها وموتها كالبشر ، وقيل إنها بحشر الله تعالى إياها كما يحشرنا وحسابه لها كما يحاسبنا ، واختار الرازي أنها بعناية الله تعالى ورحمته بها وفضله عليها ، كما تقدم عنه في وجه النظم ومناسبة الآية لما قبلها .
ونقل عن سفيان بن عيينة أنه لما قرأ الآية قال:ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس ( أي يتزين ) كفعل الطاووس ، ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه ، فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها فإن أخطأت مرة واحدة حفظها ولم يجلس مجلسا إلا رواه عنه (؟ ) -
ثم قال-فاعلم يا أخي أنك إنما تعاشر البهائم والسباع ، فبالغ في الحذار والاحتراز اه .وهذا القول-إذا صح دخوله في ضمن الصفات الحيوانية المشتركة بين الإنسان والحيوان-لا يصح أن يكون هو المراد من الآية وإن جعل الخطاب بها للمشركين خاصة ، لأن السياق هنا ليس لبيان عدم استعمال عقولهم وحواسهم في آيات الله كقوله:{ أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون} [ الأعراف:179] ، وقوله:{ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ؟ إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلا} [ الفرقان:44]
والمختار عندنا أن الله تعالى أرشدنا إلى أن أنواع الحيوان أمم أمثال الناس ، ولم يبين لنا وجه المماثلة بينهما لأجل أن نستعمل حواسنا وعقولنا في البحث الموصل إلى ذلك كما قلنا آنفا ، وللمماثلة وجوه كثيرة اهتدى بعض العلماء إلى بعضها ويجوز أن يهتدي غيرهم إلى غير ما اهتدوا إليه ، ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه الأخصائيون في كل علم وفن ، وتيسرت فيه أسباب البحث ، إذ يوجد في بلاد العلم والحضارة بساتين لتربية أنواع السباع والحشرات والبهائم الوحشية والآنسة والطير والسمك ، فالعلماء الذين يعنون بتربيتها ودرس غرائزها وطباعها وأعمالها في تلك البساتين وفي غيرها قد وصلوا إلى علم جم ووقفوا على أسرار غريبة
ومما ثبت من مشابهة النمل للناس أنه يغزو بعضه بعضا ، وأن المنتصر يسترق المنكسر ويسخره في حمل قوته وبناء قراه وغير ذلك ، وقد صارت أمم العلم والحضارة تحرص على بقاء كل نوع من أنواع الحيوان فإذا رأت بعض ما يصاد من الطير وغيرها قل في بلادها وخشي انقراضه منها تحرم على الناس صيده ولهذا العمل أصل في السنة عندنا فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب أن تقتل الكلاب في المدينة لمثل السبب الذي تقتل به حكومة مصر وغيرها الكلاب الضالة ، بل كان أمر بذلك ثم نهى عنه وقال:« لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها كلها فاقتلوا منها الأسود البهيم »{[906]} رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي عن عبد الله بن مغفل ، وعلل قتل الكلب الأسود البهيم في حديث آخر عند أحمد ومسلم بأنه شيطان{[907]} ، أي ضار مؤذ فإن اسم الشيطان يطلق لغة على العارم الخبيث من الإنس والجان والحيوان ، وقد سأل المنصور العباسي عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرف فقال المنصور:لأنه ينبح الضيف ويروع السائل .
{ ما فرطنا في الكتاب من شيء} التفريط في الأمر التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت-كما في الصحاح-ويقال فرطه وفرط فيه كما في القاموس ولسان العرب .ومنه قوله صخر الغي:
وذلك بزي فلن أفرطه
البز هنا السلاح .ويقال فرط فلانا-إذا تركه وتقدمه .روي عن ابن عباس تفسير الكتاب هنا بأم الكتاب .وفسروا أم الكتاب بأنه أصله وجملته ، وقالوا إنه اللوح المحفوظ ، وهو خلق من عالم الغيب أثبت الله تعالى فيه مقادير الخلق ما كان منها وما يكون بحسب النظام المعبر عنه بالسنن الإلهية .ومنهم من يفسر الكتاب هنا-وكذا أم الكتاب في آيتي الرعد والزخرف-بالعلم الإلهي المحيط بكل شيء ، شبه بالكتاب بكونه ثابتا لا ينسى .وقال بعضهم إن المراد بالكتاب هنا القرآن ، ولا يصح أن يكون القرآن أم الكتاب لأن أم الكتاب شامل له ولغيره من كتب الله تعالى ومن مقادير خلقه .قال تعالى بعد ذكر القرآن في أول الزخرف:{ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} [ الزخرف:4] .
ومعنى الجملة ما تركنا في الكتاب شيئا لم نثبته فيه تقصيرا وإهمالا بل أحصينا فيه كل شيء أو جعلناه تباينا لكل شيء .فإذا أريد بالكتاب العلم الإلهي أو اللوح المحفوظ فالاستغراق على ظاهره .وإذا أريد به القرآن فالمراد بقوله « من شيء »-الدال على العموم-الشيء الذي هو من موضوع الدين الذي يرسل به الرسل وينزل به الكتب وهو الهداية ، لأن العموم في كل شيء بحسبه .أي ما تركنا في الكتاب شيئا ما من ضروب الهداية التي نرسل الرسل لأجله إلا وقد بيناه فيه ، وهي أصول الدين وقواعده وأحكامه وحكمها والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية في الاستفادة من تسخير الله كل شيء للإنسان ومراعاة سننه تعالى في خلقه التي يتم بها الكمال المدني والعقلي ، فالقرآن قد بين ذلك كله بالنص أو الفحوى ومنه ما أرشد إليه هنا من علم الحيوان ، الذي يهدي إلى كمال المعرفة والإيمان .وقد بينا وجه اشتمال الكتاب على جميع أمر الدين في تفسير{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [ المائدة:101] من هذا الجزء وتفسير{ اليوم أكملت لكم دينكم} [ المائدة:3] من تفسير الجزء الخامس ، فليرجع إليها من شاء .
ومن الناس من قال إن القرآن قد حوى علوم الأكوان كلها ، وإن الشيخ محيي الدين بن العربي وقع عن حماره فرضت رجله فلم يأذن للناس بحمله إلا بعد أن استخرج حادثة وقوعه ورض رجله من سورة الفاتحة .وهذا القول لم يقل به أحد من الصحابة ولا علماء التابعين ولا غيرهم من علماء السلف الصالحين ، ولا يقبله أحد من الناس إلا من يرون أن كل ما كتبه الميتون في كتبهم حق ، وإن كان لا يقبله عقل ولا يهدي إليه نقل ، ولا تدل عليه اللغة .بل قال أئمة السلف إن القرآن لا يشتمل على جميع فروع أحكام العبادات الضرورية بدلالة النص ولا الفحوى ، وإنما أثبت وجوب إتباع الرسول فصار دالا على كل ما ثبت في السنة وأثبت قواعد القياس الصحيح وقواعد أخرى فصار مشتملا على جميع فروعها وجزئياتها ، ولا يخرج شيء من الدين عنها .وإن قبول الناس للخرافة المروية عن ابن العربي هي التي جرأت مثل مسيح الهند أحمد القادياني على ذلك التفسير الذي فسر به الفاتحة وزعم أنه معجزته الدالة على كونه هو المسيح المنتظر .وكله لغو وهذيان ، ومن أغربه أن اسم الرحمن في الفاتحة دليل على بعثة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم واسم الرحيم دليل على بعثته هو .
{ ثم إلى ربهم يحشرون ( 38 )} أي ثم يبعث أولئك الأمم من الناس والحيوان يوم القيامة ويساقون مجتمعين إلى ربهم المالك لأمرهم لا إلى غيره فيحاسب كلا على ما فعل ، ويقتص للمظلوم ممن ظلم ، وإنما حسن عود ضميري الغيبة في ربهم وفي يحشرون إلى الدواب والطير والناس جميعا لأنه خبر من الله تعالى عطف على خطاب الناس وغلب فيه ضمير الأشرف ، وإذا جعل من جملة الخطاب تعين رجوع الضميرين إلى الدواب والطير ، ونكتة جعلهما من ضمائر العقلاء .ويؤيد حشر تلك الأمم كلها قوله تعالى:{ وإذا الوحوش حشرت} [ التكوير:5] وحديث أبي ذر عند أحمد وعبد الرزاق وابن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عنزان ينتطحان فقال « يا أبا ذر هل تدري فيم ينتطحان ؟-قال لا ، لكن الله يدري وسيقضي بينهما »{[908]} وفي رواية أتدرون فيم انتطحتا ؟ قلنا لا .وزاد في رواية ابن جرير:عن أبي ذر:ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه إلا ذكر لنا منه علما .والحديث مروي من طريق منذر الثوري وهو ثقة ولكن رواه أحمد عن شيوخ لم يسموا .وفيه حجة على كون علم الحيوان من علوم الهداية المشروعة في الإسلام لما ذكرنا من فائدته آنفا .
وروى البيهقي في شعب الإيمان والخطيب في تالي التلخيص وابن عساكر عن عبيد الله بن أبي زيادة البكري قال:دخلت على ابني بشر المازنيين صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يرحمكما الله ، الرجل منا يركب الدابة فيضربها بالسوط أو يكبحها باللجام فهل سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا ؟ فقالا لا .قال عبيد الله فنادتني امرأة من الداخل فقالت يا هذا إن الله يقول في كتابه{ وما من دابة في الأرض ولا طائر ...} الآية فقالا هذه اختنا وهي أكبر منا وقد أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم- فهذه الصحابية استدلت بالآية على وجوب الرفق والرحمة بالدواب وغيرها من الحيوان وأنه تعالى يحاسب الناس على ظلمهم لها يوم يحشرهم إليه جميعا ويؤيده ما ورد في ذلك من الأحاديث كحديث « ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة »{[909]} وذكر أن حقها أكلها ، رواه النسائي والحاكم وصححه .وفي معناه حديث آخر عند النسائي وابن حبان في صحيحه وحديث « إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته »{[910]} رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث شداد بن أوس مرفوعا .
وأخرج رواة التفسير المأثور والحاكم وصححه عن أبي هريرة في تفسير الآية إن الله يحشر هذه الأمم يوم القيامة ويقتص لبعضها من بعض حتى يقتص للجلحاء من ذات القرن .وفي رواية للجماء من القرناء .وغلط الآلوسي فعزاه إلى حديث الصحيحين ، ولكن روى مسلم والترمذي عنه مرفوعا « لتؤذن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء »{[911]} ونقل عن المعتزلة أن العقل يدل على وجوب إعادة الحيوان كالإنسان للتعويض على كل لا لمحض العقاب على الجناية فكل حي أصابه ألم يجب أن ينال عوضا عنه فإذا كان الألم بفعل الله أو بشرعه كالذي يذبح ليؤكل أو يقتل اتقاء ضرره فالله يعوضه عن ذلك .
وروى ابن جرير وابن حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله:{ ثم إلى ربهم يحشرون} قال:موت البهائم حشرها .وفي لفظ قال يعني بالحشر الموت .قال السيد الآلوسي:ومراده رضي الله تعالى عنه- على ما قيل – إن قوله سبحانه{ ثم إلى ربهم يحشرون} مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما ورد في الحديث « من مات فقد قامت قيامته » فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلا من الدنيا إلى الآخرة ، اه وصوب ابن جرير أن المراد الحشران جميعا حشر الموت وحشر البعث ، وعلله بأن الحشر في كلام العرب الجمع وهو يشملهما ولا مرجح لأحدهما من كتاب ولا سنة .هذا محصل قوله ، والصواب أن الحشر جمع وبعث أو كما قال الراغب إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم إلى الحرب ونحوها ، ففيه معنى الجمع لأنه لا يطلق على الواحد .ومعنى الحشر بالموت سوق الإحياء إليه حتى يكون هو غايتهم .
وأحسن ما قاله ابن جرير في تفسير الآية بيان وجه العبرة والموعظة فيها ، قال:يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المعرضين عنك المكذبين بآيات الله أيها القوم لا تحسبن الله غافلا عما تعملون ، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون ، وكيف يغفل عن أعمالكم ، أو يترك مجازاتكم ، وهو غير غافل عن عمل شيء دب على الأرض صغيرا أو كبيرا ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء بل جعل ذلك كله أجناسا مجنسة ، وأصنافا مصنفة ، تعرف كما تعرفون ، وتتصرف فيما سخرت له كما تتصرفون ، ومحفوظ عيها ما عملت من عمل لها وعليها ، ومثبت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب .ثم إنه تعالى ذكره مميتها ، ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاء أعمالها .يقول فالرب الذي لم يضيع حفظ البهائم والدواب في الأرض والطير في الهواء حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها ، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب ، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء ، أحرى أن لا يضيع أعمالكم ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها أيها الناس ، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ، إذ كان قد خصكم من نعمه وبسط عليكم من فضله ما لا يعم غيركم في الدنيا ، وكنتم بشكره أحق ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى ، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميزون ، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطير الذي به بين مصالحكم ومضاركم تفرقون اه .
مسائل مستنبطة من الآية منقولة عن روح المعاني وتقدم ذكر بعضها
الاستدلال بها على التناسخ:
قال الآلوسي بعد تفسير الآية:هذا وفي رسالة المعاد لأبي علي:قال المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ إن هذه الآية دليل عليه لأنه سبحانه قال:{ وما من دابة} الخ وفيه الحكم بأن الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالها بالفعل فيتعين كونهم أمثالنا بالقوة ضرورة صدق هذا الحكم وعدم الواسطة بين الفعل والقوة وحينئذ لا بد من القول بحلول النفس الإنسانية في شيء من تلك الحيوانات وهو التناسخ المطلوب .ولا يخفى أنه دليل كاسد على مذهب فاسد .
هل للبهائم نفوس ناطقة:
قال:ومن الناس من جعلها دليلا على أن للحيوانات بأسرها نفوسا ناطقة كما لأفراد الإنسان وإليه ذهب الصوفية وبعض الحكماء الإسلاميين وأورد الشعراني في ( الجواهر والدرر ) لذلك أدلة غير ما ذكر:
( منها ) أنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر وتعرض كل من الأنصار لزمام ناقته قال عليه الصلاة والسلام « دعوها فإنها مأمورة » ووجه الاستدلال بذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناقة مأمورة ولا يعقل الأمر إلا من له نفس ناطقة ، وإذا ثبت أن للناقة نفسا كذلك ثبت للغير إذ لا قائل بالفرق .
( ومنها ) ما يشاهد في النحل وصنعتها أقراص الشمع ، والعناكب واحتيالها لصيد الذباب والنمل ، وادخاره لقوته على وجه لا يفسد معه ما ادخره .وأورد بعضهم دليلا لذلك أيضا النملة التي كلمت سليمان عليه الصلاة والسلام بما قص الله تعالى لنا عنها مما لا يهتدي إلى ما فيه إلا العالمون ، وخوف الشاة من ذئب لم تشاهد فعله قبل ، فإن ذلك لا يكون إلا عن استدلال وهو شأن ذوي النفوس الناطقة ، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه فإن ذلك دليل على اعتقاد النفع ومعرفة الحسن ، وهو من شأن ذوي النفوس .
القول بتكليف البهائم:
قال:وأغرب من هذا دعوى الصوفية ونقله الشعراني عن شيخه على الخواص قدس الله تعالى سره إن الحيوانات مخاطبة مكلفة من عند الله تعالى من حيث لا يشعر المحجوبون .ثم قال ويؤيده قوله تعالى:{ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [ فاطر:24] حيث نكر سبحانه وتعالى الأمة والنذير وهم من جملة الأمم .ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول جميع ما في الأمم فينا (؟ ) حتى أن فيهم ابن عباس مثلي ، وذكر في الأجوبة المرضية أن فيهم أنبياء .وفي الجواهر أنه يجوز أن يكون النذير من أنفسهم وإن يكون خارجا عنهم من جنسهم .وحكى شيخه عن بعضهم أنه قال إن تشبيه الله تعالى من ضل من عباده بالأنعام في قوله سبحانه وتعالى:{ إن هم إلا كالأنعام} [ الفرقان:44] ليس لنقص فيها وإنما هو لسان كمال مرتبتها في العلم بالله تعالى حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى .فأعلى ما يصل إليه العلماء بربهم سبحانه وتعالى هو مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عنه أي عن أصله وإن كانت متنقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال ، ولذلك كان من وصفهم الله عز وجل من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام ، لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن ذلك لهم ، والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه ، وذلك لشدة علمها بالله تعالى اه .
قال:ونقل الشهاب عن ابن المنير أن من ذهب إلى أن البهائم والهوام مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعول عليهم كالجاحظ وغيره ، وعلى إكفار القائل بذلك نص كثير من الفقهاء ، والجزاء الذي يكون يوم القيامة للحيوانات عندهم ليس جزاء تكليف ، على أن بعضهم ذهب إلى أن الحيوانات لا تحشر يوم القيامة وأول الظواهر الدالة على ذلك .وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أصل له .والمثلية في الآية لا تدل على شيء مما ذكر .
القول بأن كل موجود حي:
قال:وأغرب الغريب عند أهل الظاهر أن الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم جعلوا كل شيء في الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ، ويتألم كما يتألم الحيوان ، وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة ، ويستندون في ذلك إلى الشهود ، وربما يستدلون بقوله سبحانه وتعالى:{ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [ الإسراء:44] وبنحو ذلك من الآيات والأخبار .
- والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي .ونظير ذلك
شكا إلي جملي طول السري{[912]} ****امتلأ الحوض وقال قطني{[913]}
وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح كتسبيح الحصى في كفه الشريف صلى الله عليه وسلم مثلا إنما هو عن خلق إدراك إذ ذاك ، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس بل عن إلهام وتسخير ، ولذلك لا تختلف ولا تتنوع والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء على قواعدنا ، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن اعتقاد بل هناك هشة أخرى نفسانية وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه .والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا عن افتراسه ، وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان ولده .وعلى هذا الطرز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض الحيوانات .
قال:وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وأنا لا أرى مانعا من القول بأن للحيوانات نفوسا ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان ، وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان .والشواهد على هذا كثيرة وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله ، وقد صرح غير واحد أنها عارفة بربها جل شأنه .
قال:وأما أن لها رسلا من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به .وأما إن الجمادات حية مدركة فأمر وراء طور عقلي والله تعالى على كل شيء قدير وهو العليم الخبير اه .
نقول:أما مذهب التناسخ .فهو من الأساطير الخرافية ، التي ولدتها الخيالات الشعرية ، فلا نضيع الوقت بالخوض في بيان بطلانها .
وأما قول من قال إن للحيوانات أنفسا ناطقة فإن أريد به أنها كنفس الإنسان فتحقيقه يتوقف على معرفة كنه هذه النفس وأين من يدعي هذا ويثبت دعواه ؟ ولا ينكر من له أدنى إلمام بعلم الحيوان وما أوتيه من أنواعه من أنواع الإدراك الذي يفوق ببعضه إدراكات الناس ولكنها تنحصر في مناطق ضيقه جدا لأنها متعلقة بحفظ حياته الفردية والنوعية وهي محدودة ضيقة .ولعلنا نفصل القول فيها في تفسير آية أخرى ، وإدراك البشر لا تنحصر أنواعه ولا أفراده ، وإنما كان استعداده العلمي غير محدود بحد ، لأنه خلق حياة غير محدودة بحد ، وهي حياة الآخرة .ودعوى تكليف الحيوان الأعجم وبعثة رسل منه في كل أمة من أممه لا يدل عليها عقل ولا نقل .وقوله تعالى:{ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [ فاطر:24] نزل في سياق الكلام عن البشر .
وأما القول بحياة الجماد فهو منقول عن بعض الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين ، وعن بعض الطبيعيين والكيماويين ، ولهم عليه دلائل علمية ونظرية .ويتوقف بيان ذلك على تعريف الحياة ومظاهرها وخواصها كالتغذي والنمو والتولد والموت ، وفي تلك الجمادات ولا سيما الأجسام المتبلورة شيء من ذلك .وكان شيخنا الأستاذ الإمام يعتقد أن الحياة منبثة في العالم كله ، ولعلنا نعود إلى هذا البحث بعد .