قوله:{ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض وابتع هواه} أي لو شاء الله لرفعه بآياته التي آتاها إياه .والمراد بالرفع: ما كان في المنزلة .ومنها: الرفع في شرف الدنيا .ومنها: الرفع في الذكر الجميل والثناء الحميد .أو أن الله أعطاه كل هذه المعاني مجتمعة بان وفقه للعمل بآياته والتي كان قد آتاه إياها ؛وقيل في تأويل الآية: لو شئنا لأمتناه قبل أن يضل ويعصي ربه ،فرفعناه إلى الجنة بذلك .أي بعمله الذي يستوجب ( الجنة ){ولاكنه أخلد إلى الأرض} من الإخلاد ،وهو الركون واللزوم .أخلد بالمكان ؛أي لزمه فاطمأن وسكن{[1579]} .والمعنى: أنه ركن إلى الأرض أو نزع إليها أو مال إلى ملذاتها وشهواتها وزخارفها وعزف عن الحق واليقين الذي كان متلبسا به من قبل أن يضل .
وقوله:{واتبع هواه} وهو الضلال والفسق عن أمر الله نزوعا للدنيا وما فيها من خسائس ومغريات موبقات ،أو كان هواه مع القوم الظالمين الذين حرضوه على الإخلاد للأرض والزيغ عن عقيدة التوحيد ركونا للهوى والأموال والشهوات .
قوله:{فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث} يلهث من اللهاث بالضم ؛وهو حر العطش في الجوف .يقال: هو يقاسي لهاث الموت ؛أي شدته .لهث الكلب لهثا ولهاثا: أخرج لسانه من حر أو عطش{[1580]} .ذلك مثل ضربه الله للذي ضل وغوى وخرج عن ملة الإسلام بعد أن آتاه الله آياته فانسلخ منها .فهو أشبه ما يكون بالكلب الذي دأبه اللهاث ؛فهو يلهث إذا طردته ،ويلهث إذا تركته .
قال القتبي في هذا الصدد: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ؛فغنه يلهث في حال الكلال ،وحال الراحة ،وحال المرض ،وحال الصحة ،وحال الري ،وحال العطش .فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته ضل ،وإن تركته ضل ؛فهو كالكلب إن تركته لهث ،وإن طردته لهث ،وقيل في تأويل الآية: إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا ،وإذا تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلا عليك ؛ودبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان .
وتلك هي حال الذي انسلخ من آيات الله وفسق عن دينه بعد علم به وهداية ؛فإنه صار بذلك من غير فؤاد .أو أن فؤاده بات غليظا أجوف لا مكان فيه للإيمان أو اليقين ؛فهو سواء وعظ أو لم يوعظ ،لم يأت بخير ؛لأن قلبه خال من الخير ولا يستسيغه ؛فهو بذلك ضال مجانب لدين الله .لا تجدي معه النصائح والمواعظ ،ولا تعطف قلبه النواهي والزاجر ،ولا يؤثر فيه الترغيب والترهيب ليثنيه عن فعل المعاصي والموبقات .فمثله في ذلك مثل الكلب اللاهث تماما ؛إذ يلهث في كل الأحوال .فما أروع هذا التعبير ،وما أكمل هذا التصوير الذي لا يصدر بهذا الجمال والرصانة وقوة التأثير إلا عن حكيم خبير !
وقوله:{فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} أي أقصص على المشركين واليهود هذه الأخبار عن نقم الله وما أنزله بالمجرمين المضلين من العقوبات والمثلاث .وكذا قص عليهم خبر أي انسلخ من آيات الله ثم ركن إلى الدنيا والشهوات فانتقم الله منه وهو من جنسهم –أي اليهود- أقصص عليهم هذه الأخبار لعلهم يرجعون إلى عقولهم فيفهمون وينزجرون عن الباطل والضلال .