وقوله تعالى:( ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ) يقول تعالى:( ولو شئنا لرفعناه بها ) أي:لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها ، ( ولكنه أخلد إلى الأرض ) أي:مال إلى زينة الدنيا وزهرتها ، وأقبل على لذاتها ونعيمها ، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى .
وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى:( ولكنه أخلد إلى الأرض ) قال:تراءى له الشيطان على غلوة من قنطرة بانياس ، فسجدت الحمارة لله ، وسجد بلعام للشيطان . وكذا قال عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، وغير واحد .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله:وكان من قصة هذا الرجل:ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه:أنه سئل عن هذه الآية:( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا [ فانسلخ منها] ) فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام ، وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة ، قال:وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام - أو قال:الشام - قال فرعب الناس منه رعبا شديدا ، قال:فأتوا بلعام ، فقالوا:ادع الله على هذا الرجل وجيشه ! قال:حتى أوامر ربي - أو:حتى أؤامر - قال:فوامر في الدعاء عليهم ، فقيل له:لا تدع عليهم ، فإنهم عبادي ، وفيهم نبيهم . قال:فقال لقومه:إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم ، وإني قد نهيت . فأهدوا له هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقالوا:ادع عليهم . فقال:حتى أوامر . فوامر ، فلم يحر إليه شيء . فقال:قد وامرت فلم يحر إلي شيء ! فقالوا:لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى . قال:فأخذ يدعو عليهم ، فإذا دعا عليهم ، جرى على لسانه الدعاء على قومه ، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه - أو نحوا من ذا إن شاء الله . قال ما نراك تدعو إلا علينا . قال:ما يجري على لساني إلا هكذا ، ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي ، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم . إن الله يبغض الزنا ، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا ، ورجوت أن يهلكهم الله ، فأخرجوا النساء يستقبلنهم ; فإنهم قوم مسافرون ، فعسى أن يزنوا فيهلكوا . قال:ففعلوا . قال:فأخرجوا النساء يستقبلنهم . قال:وكان للملك ابنة ، فذكر من عظمها ما الله أعلم به ! قال:فقال أبوها - أو بلعام -:لا تمكني نفسك إلا من موسى ! قال:ووقعوا في الزنا . قال:وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل ، قال:فأرادها على نفسه ، فقالت:ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى . قال:فقال:إن منزلتي كذا وكذا ، وإن من حالي كذا وكذا . قال:فأرسلت إلى أبيها تستأمره ، قال:فقال لها:فأمكنيه قال:ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما . قال:وأيده الله بقوة . فانتظمهما جميعا ، ورفعهما على رمحه فرآهما الناس - أو كما حدث - قال:وسلط الله عليهم الطاعون ، فمات منهم سبعون ألفا .
قال أبو المعتمر:فحدثني سيار:أن بلعام ركب حمارة له حتى أتى العلولى - أو قال:طريقا من العلولى - جعل يضربها ولا تقدم ، وقامت عليه فقالت:علام تضربني ؟ أما ترى هذا الذي بين يديك ؟ فإذا الشيطان بين يديه ، قال:فنزل وسجد له ، قال الله تعالى:( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) إلى قوله:( لعلهم يتفكرون )
قال:فحدثني بهذا سيار ، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره .
قلت:هو بلعام - ويقال:بلعم - بن باعوراء ، ابن أبر . ويقال:ابن باعور بن شهوم بن قوشتم بن ماب بن لوط بن هاران - ويقال:ابن حران - بن آزر . وكان يسكن قرية من قرى البلقاء .
قال ابن عساكر:وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم ، فانسلخ من دينه ، له ذكر في القرآن . ثم أورد من قصته نحوا مما ذكرنا هاهنا ، وأورده عن وهب وغيره ، والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر ; أنه حدث:أن موسى ، عليه السلام ، لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام ، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له:هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل ، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وإنا قومك ، وليس لنا منزل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله عليهم . قال:ويلكم ! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون ، كيف أذهب أدعو عليهم ، وأنا أعلم من الله ما أعلم ؟ ! قالوا له:ما لنا من منزل ! فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه ، حتى فتنوه فافتتن ، فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل ، وهو جبل حسبان ، فلما سار عليها غير كثير ، ربضت به ، فنزل عنها فضربها ، حتى إذا أذلقها قامت فركبها . فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به ، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه ، فقالت:ويحك يا بلعم:أين تذهب ؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم ؟ فلم ينزع عنها يضربها ، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك . فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان ، على عسكر موسى وبني إسرائيل ، جعل يدعو عليهم ، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل . فقال له قومه:أتدري يا بلعم ما تصنع ؟ إنما تدعو لهم ، وتدعو علينا ! قال:فهذا ما لا أملك ، هذا شيء قد غلب الله عليه ! قال:واندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم:قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، ولم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، جملوا النساء وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كفيتموهم ، ففعلوا . فلما دخل النساء العسكر ، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها "كسبى ابنة صور ، رأس أمته "برجل من عظماء بني إسرائيل ، وهو "زمرى بن شلوم "، رأس سبط بني سمعان بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، عليهم السلام ، فقام إليها ، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى ، عليه السلام ، فقال:إني أظنك ستقول هذا حرام عليك ؟ قال:أجل ، هي حرام عليك ، لا تقربها . قال:فوالله لا نطيعك في هذا . ثم دخل بها قبته فوقع عليها . وأرسل الله ، عز وجل ، الطاعون في بني إسرائيل ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون ، صاحب أمر موسى ، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع ، فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته ، وكانت من حديد كلها ، ثم دخل القبة وهما متضاجعان ، فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه ، واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحييه - وكان بكر العيزار - وجعل يقول:اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك . ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا - والمقلل لهم يقول:عشرون ألفا - في ساعة من النهار . فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحي - لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه ، وإسناده إياها إلى لحييه - والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ; لأنه كان بكر أبيه العيزار . ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله:( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها [ فأتبعه الشيطان] ) - إلى قوله:( لعلهم يتفكرون )
وقوله تعالى:( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) اختلف المفسرون في معناه فأما على سياق ابن إسحاق ، عن سالم بن أبي النضر:أن بلعام اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك . وقيل:معناه:فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه ، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء ، كالكلب في لهثه في حالتيه ، إن حملت عليه وإن تركته ، هو يلهث في الحالين ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه ; كما قال تعالى:( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ البقرة:6] ، ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) [ التوبة:80] ونحو ذلك .
وقيل:معناه:أن قلب الكافر والمنافق والضال ، ضعيف فارغ من الهدى ، فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا ، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره .
وقوله تعالى:( فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:( فاقصص القصص لعلهم ) أي:لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام ، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته ، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه - في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب - في غير طاعة ربه ، بل دعا به على حزب الرحمن ، وشعب الإيمان ، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان ، كليم الله موسى بن عمران ، [ عليه السلام] ; ولهذا قال:( لعلهم يتفكرون ) أي:فيحذروا أن يكونوا مثله ; فإن الله قد أعطاهم علما ، وميزهم على من عداهم من الأعراب ، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم ، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته ، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ; ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد ، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة .