قوله:{ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} التحرف للقتال هو الكر بعد الفر ؛إذ يخيل المتحرف لعدوه أنه منهزم ثم يباغته الهجوم .وهذا من باب الخداع والمكايدة في الحرب ،فالحرب خدعة ،أو هو التحرف من جانب إلى جانب في المعركة طلبا لمكابد الحرب وخداعا للعدو .
أما المتحيز ؛فهم من التحيز ،ومعناه التنحي .فالمتنحي عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره .فالمتحيز إلى فئة هو الذي يفر من هنا حيث لقاء العدو إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه .أو هو المتحيز إلى فئة ( جماعة ) من المسلمين غير الجماعة التي في مواجهة العدو .
وجملة القول: أن الفرار أو الانهزام من مواجهة العدو يوم الزحف حرام إلا في حالتين: الحالة الأولى: أن يكون{متحرفا لقتال} .وهو أن يتخيل إلى عدوه أنه منهزم ثم ينعطف ( ينثني ) عليه على سبيل الخدع والمكايدة .
الحالة الثانية: أن يكون{متحيزا إلى فئة} وقلنا: التحيز بمعنى التنحي عن جانب إلى آخر حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الأمام الأعظم ،دخل في هذه الرخصة .
وفي هذا الصدد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال: كنت في سرية من سرايا رسول صلى الله عليه وسلم فحاص{[1637]} الناس حيصة فكنت فمين حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ثم قال: لو دخلنا المدينة ثم بينا .ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا .فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: ( من القوم ؟) فقلنا: نحن الفرارون .فقال: لا بل أنتم العكارون ،أنا فئتكم وأنا فئة للمسلمين ) فأتيناه حتى قبلنا يده ،ومعنى قوله: ( العكارون ) أي العطافون .
وكذلك قال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) في أبي عبيدة لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس .فقال عمر: لو تحيز إلي لكنت له فئة .
وعلى هذا إذا كان الفرار عن غير سبب من هذه الأسباب فإنه حرام .بل إنه كبيرة من الكبائر .ولهذا قال سبحانه في حق الفار من غير سبب:{فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم} أي فقد رجع بغضب من الله ،ومأواه ومنقلبه الذي يصير إليه يوم معاده هو جهنم{وبئس المصير} أي بئس الموضع والمآل الذي يؤول إليه يوم القيامة{[1638]} .