وقد قال تعالى:{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
ذكر مفردا فارا ؛ للإشارة إلى وجوب التضافر والتآزر ، وألا ينفرد بقرار ، وألا يكون إلا في جماعة .
وقد استثنى الله تعالى من الذين يتركون الميدان طائفتين لا تعدان فارتين ، بل تعدان متقاتلتين .
أولاهما – المتحرفة لقتال ، والثانية – المتحيزة إلى فئة .
المتحرفة معناها المائلة ، والمتحيزة هي التي تتجه إلى حوزة جماعة من جماعة المسلمين .
والمتحرفة المراد بها المائلة في القتال غير تاركة ، ولكنها آخذة بضرب من ضروب الحيلة والخديعة ، وقد ضرب لذلك الحافظ ابن كثير مثلا ، فقال:( ذلك الذي يظهر أنه يميل إلى الفرار حتى إذا اطمأن محاربه انقض إليه غرة وقتله ، والمتحيز إلى فئة الذي يلجأ إلى فئة يحسبها تحتاج إلى قوة فينضم إليها مقويا صفوفها ) .
وهاتان الطائفتان لا تعتبران فارتين ولا متوليتين الأدبار ؛ ولذا نقرر أن الاستثناء منقطع ، بمعنى لكن ، أي لكن المتحرف أو المتحيز لطائفة لا يعدان مولين الأدبار .
وقد يكون الفرار أمرا ضروريا إذا كان العدو أغلب ، ولكن الفرار لا يكون بتولية الأدبار ، بل يكون بتدبير الانسحاب ويكون بالتراجع ، من غير أن يولوا ظهورهم للأعداء ، يضربون في أدبارهم ، كما فعل القائد العظيم خالد بن الوليد هذا عندما آل إليه أمر القيادة بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بمن أبي طالب وعبد الله بن أبي رواحة ، فقد رأى أن أمامه جيشا يعد بمئات الألوف ، ومعه ثلاثة ألوف ، فقد أخذ يتراجع ، ويوهم الأعداء أنه قد جاءه مدد حتى عاد إلى المدينة وسماهم بعض المجاهدين فرارين ، وسماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( العكارين ) ( 1 ){[1156]} أي الكرارين .
وإن الفرار في الزحف من أكبر الكبائر ، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال:الشرك بالله والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) ( 2 ){[1157]} .
وقد تكلم العلماء في الفرار ، فأجازه بعضهم إذا كان العدو كثيفا ، والمؤمنون قلة ، وهم مأكولون لا محالة ونحن لا نجيز تولية الأدبار مطلقا ، لأنه تمكين من رقاب المؤمنين ، وإذهاب للبأس ، ولكن نجيز التراجع المنظم كما فعل القائد العظيم خالد ، إن تولية الأدبار إذلال للمؤمنين وتمكين من القتل الرخيص وليس هو التراجع الحكيم ؛ لأن التراجع يحمي صدره ، والمولي الأدبار يمكنهم من ظهره .
وقد بين الله سبحانه في النهي عن الفرار جزاء من يولهم يومئذ دبره ، فقال تعالى:{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ، أي يوم الزحف ولى مدبرا مضطربا{ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ} أي رجع مغضوبا عليه من الله تعالى ، فغضب عليه ، والواجب أن يطلب رضوانه ،{ ومأواه جهنم} ، أي الذي يأوي إليه جهنم{ وبئس المصير} .