( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال ) أي:يفر بين يدي قرنه مكيدة ؛ ليريه أنه [ قد] خاف منه فيتبعه ، ثم يكر عليه فيقتله ، فلا بأس عليه في ذلك . نص عليه سعيد بن جبير ، والسدي .
وقال الضحاك:أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها .
( أو متحيزا إلى فئة ) أي:فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين ، يعاونهم ويعاونوه فيجوز له ذلك ، حتى [ و] لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .
قال الإمام أحمد:حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال:كنت في سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاص الناس حيصة - وكنت فيمن حاص - فقلنا:كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا:لو دخلنا المدينة فبتنا ؟ ثم قلنا:لو عرضنا أنفسنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ؟ فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال:من القوم ؟ فقلنا:نحن الفرارون . فقال:لا بل أنتم العكارون ، أنا فئتكم ، وأنا فئة المسلمين قال:فأتيناه حتى قبلنا يده .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من طرق عن يزيد بن أبي زياد وقال الترمذي:حسن لا نعرفه إلا من حديثه .
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن أبي زياد به . وزاد في آخره:وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية:( أو متحيزا إلى فئة )
قال أهل العلم:معنى قوله:"العكارون "أي:العطافون . وكذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر:لو انحاز إلي كنت له فئة . هكذا رواه محمد بن سيرين ، عن عمر .
وفي رواية أبي عثمان النهدي ، عن عمر قال:لما قتل أبو عبيد قال عمر:يا أيها الناس ، أنا فئتكم .
وقال مجاهد:قال عمر:أنا فئة كل مسلم .
وقال عبد الملك بن عمير ، عن عمر:أيها الناس ، لا تغرنكم هذه الآية ، فإنما كانت يوم بدر ، وأنا فئة لكل مسلم .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي ، حدثنا نافع:أنه سأل ابن عمر قلت:إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ، ولا ندري من الفئة:إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال:إن الفئة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقلت إن الله يقول:( إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ) فقال:إنما نزلت هذه الآية في يوم بدر ، لا قبلها ولا بعدها .
وقال الضحاك في قوله:( أو متحيزا إلى فئة ) المتحيز:الفار إلى النبي وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه .
فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب ، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر ، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:اجتنبوا السبع الموبقات . قيل:يا رسول الله ، وما هن ؟ قال:الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .
ولهذا الحديث شواهد من وجوه أخر ؛ ولهذا قال تعالى:( فقد باء ) أي:رجع ( بغضب من الله ومأواه ) أي:مصيره ومنقلبه يوم ميعاده:( جهنم وبئس المصير )
وقال الإمام أحمد:حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي ، عن زيد بن أبي أنيسة ، حدثنا جبلة بن سحيم ، عن أبي المثنى العبدي ، سمعت السدوسي - يعني ابن الخصاصية ، وهو بشير بن معبد - قال:أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبايعه ، فاشترط علي:شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله . فقلت:يا رسول الله ، أما اثنتان فوالله لا أطيقهما:الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله ، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت . والصدقة ، فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود هن رسل أهلي وحمولتهم . فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، ثم حرك يده ، ثم قال:فلا جهاد ولا صدقة ، فيم تدخل الجنة إذا ؟ فقلت:يا رسول الله ، أنا أبايعك . فبايعته عليهن كلهن .
هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه في الكتب الستة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر ، حدثنا يزيد بن ربيعة ، حدثنا أبو الأشعث ، عن ثوبان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:ثلاثة لا ينفع معهن عمل:الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف .
وهذا أيضا حديث غريب جدا .
وقال الطبراني أيضا:حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الشني ، حدثني عمرو بن مرة قال:سمعت بلال بن يسار بن زيد - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:سمعت أبي حدث عن جدي قال:قال رسول الله:من قال:أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فر من الزحف .
وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، به . وأخرجه الترمذي ، عن البخاري ، عن موسى بن إسماعيل به . وقال:غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
قلت:ولا يعرف لزيد مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه سواه .
وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة ؛ لأنه - يعني الجهاد - كان فرض عين عليهم . وقيل:على الأنصار خاصة ؛ لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره . وقيل:[ إنما] المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة ، يروى هذا عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وأبي نضرة ، ونافع مولى ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم .
وحجتهم في هذا:أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها سوى عصابتهم تلك ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله:( ومن يولهم يومئذ دبره ) قال:ذلك يوم بدر ، فأما اليوم:فإن انحاز إلى فئة أو مصر - أحسبه قال:فلا بأس عليه .
وقال ابن المبارك أيضا ، عن ابن لهيعة:حدثني يزيد بن أبي حبيب قال:أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار ، قال:( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ) فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال:( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان [ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا] ) ( ولقد عفا الله عنهم ) [ آل عمران:155] ، ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين ، قال:( ثم وليتم مدبرين ) [ التوبة:25] ( ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ) [ التوبة:27] .
وفي سنن أبي داود ، والنسائي ، ومستدرك الحاكم ، وتفسير ابن جرير ، وابن مردويه ، من حديث داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية:( ومن يولهم يومئذ دبره ) إنما أنزلت في أهل بدر وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر ، وإن كان سبب النزول فيهم ، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم ، من أن الفرار من الزحف من الموبقات ، كما هو مذهب الجماهير ، والله [ تعالى] أعلم .