قوله تعالى:{فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم 17 ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} أي لم تهزموا قريشا هذه الهزيمة المشهودة ولم يقتلوا صناديدهم بحولكم وقوتكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم ،بل الله أظفركم عليهم ومكنكم منهم ،{وما النصر إلا من عند الله} فهو سبحانه يكتب النصر لمن يشاء من عباده .وقيل: إن الله قتلهم بالملائكة الذين أمد بهم المسلمين .أما قوله:{وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي} فقد اختلف العلماء في المراد بالرمي على عدة أقوال:
منها: أن هذا كان يوم أحد حين رمي أبي بن خلف بالحربة في عنقه فكر أبي منهزما ،فقال له المشركون: والله ما بك من بأس .فقال: والله لو بصق علي –يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- لقتلني ،أليس قد قال: بل أنا أقتله ،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوعد أبي بن خلف في مكة بالقتل .فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بل أنا أقتلك ) فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له ( سرف ) .وقد ذكر عن ابن شهاب أنهل ما كان يوم أحد أقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه يقول: لا نجوت إن نجا محمد ،فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله ،فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه فاستقبله مصعب ابن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم ،وفي ذلك نزل قوله:{وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} لكن الصواب نزل الآية عقيب بدر وليس في أحد .
ومنها: أن هذا كان يوم بدر ؛فقد روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه يوم بدر فقال: ( يا رب إن تهلك هذه العصابة فلت تعبد في الأرض أبدا ) فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم ،فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم ،فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ،فولوا مدبرين .وذكر أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بالقبضة من التراب وقال: ( شاهت الوجوه ) ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا ،فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله .ولهذا قال: وما رميت إذ رميت ولاكن الله رمى} أي أن الله هو الذي أوصل ذلك إليهم فأذلهم وأخزاهم به وليس أنتم وما تملكونه من العدة والعتاد .
ومنها: أن ذلك كان في حصب ( حصى ) رماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه المشركين يوم حنين ،ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه من ذلك .
ومنها: أن المراد هم السهم الذي رمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خبير فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه .وهذا أيضا بعيد والصحيح أن الآية كانت يوم بدر ؛لأن السورة بدرية ،وذلك أن جبريل عليه السلام قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ( خذ قبضة من التراب ) فاخذ من التراب فرمى بها وجوه المشركين .وهو ما بيناه في القول الثاني{[1639]} .
قوله:{وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم} وليبلي من البلاء ،وهو هنا بمعنى النعمة .لا جرم أن النعمة من أشد ما يبتلي به الإنسان فيعلم أن سيشكر أن يكفر ؛أي لينعم الله على المؤمنين ورسوله الكريم بالظفر فينصرهم عليهم نصرا ظاهرا عزيزا{إن الله سميع عليم} أي أن الله سميع لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم ؛إذ يناشد ربه ويدعوه في تضرع وتذلل أن يعلك عدوه وعدوهم .وهو سبحانه عليم بما فيه صلاحهم وبما تستقيم عليه أحوالهم ؛فهو سبحانه محيط علمه بكل شيء .