وأما قوله{ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} فهو وصل للنهي عن التولي بما هو حجة على جدارتهم بالانتهاء ، فإن كانت الآية التي قبله قد نزلت بعد انتهاء القتال في غزوة بدر كسائر السورة كما عليه الجمهور فوجه الوصل بالفاء ظاهر جلي ، كأنه يقول يا أيها المؤمنون لا تولوا الكفار ظهوركم في القتال أبدا ، فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى ، فها أنتم أولاء قد انتصرتم عليهم على قلة عددكم وعددكم وكثرتهم واستعدادهم ، وإنما ذلك بتأييد الله تعالى لكم ، وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم ، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذريع بمحض قوتكم واستعدادكم المادي ولكن الله قتلهم بأيديكم بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم ، وبإلقائه الرعب في قلوبهم ، فهو قوله عز وجل{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} [ التوبة:14] الآية ، والمؤمن أجدر بالصبر الذي هو الركن الأعظم للنصر من الكافر ، لأنه أقل حرصا على متاع الدنيا ، وأعظم رجاء بالله والدار الآخرة كما قال تعالى:{ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [ النساء:104] وقال حكاية لرد المؤمنين بهذا الرجاء ، على الخائفين من كثرة الأعداء{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [ البقرة:249] .
ثم التفت عن خطاب المؤمنين المقاتلين بأيديهم ، والمجندلين لصناديد المشركين بسيوفهم ، إلى خطاب قائدهم وهو الرسول المؤيد منه تعالى بالآيات صلى الله عليه وسلم ومنها أنه رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب قائلا ( شاهت الوجوه ){[1408]} فأعقبت رميته هزيمتهم ، روي عن أبي معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرطبي بالمعنى وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال في استغاثته يوم بدر ( يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ) قال له جبريل:خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم – ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين .وروى السدي أنه صلى الله عليه وسلم طلب من علي أن يعطيه حصبا من الأرض فناوله حصبا عليه تراب فرماهم به الخ .وعن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة أيضا أن الآية في رميه صلى الله عليه وسلم في بدر .
فإذا لم تكن رواية من هذه الروايات وصلت إلى درجة الصحيح فمجموعها مع القرينة حجة على ذلك .وروي مثل هذه الرمية في غزوة حنين فحمل الآية بعضهم على ذلك وهو شاذ وحملها بعضهم على رميه صلى الله عليه وسلم لأمية بن خلف بالحربة يوم أحد وهو مقنع بالحديد فقتله وهو شاذ أيضا فالآية بل السورة نزلت في غزوة بدر .
والمعنى{ وما رميت إذ رميت} الخ رميت أيها الرسول أحدا من أولئك المشركين في الوقت الذي رميت به تلك القبضة من التراب بإلقائها في الهواء فأصابت وجوههم فإن ما أوتيته كأمثالك من البشر من استطاعة على الرمي لا يبلغ هذا التأثير الذي هو فوق الأسباب الممنوحة لهم{ ولكن الله رمى} وجوههم كلهم بما أوصل التراب الذي ألقيته في الهواء إليها مع قلته ، أو بعد تكثيره بمحض قدرته ، وحذف مفعول الرمي للدلالة على عمومه في كل من الإثبات والنفي كما قدرنا فيهما وفاقا لما تقرر في علم المعاني- وقد علم من هذا التفسير المتبادر من اللفظ بغير تكلف وجه الفرق بين قتل المؤمنين للكفار الذي هو فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله في الأسباب الدنيوية ، وبين رمي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالتراب الذي ليس بسبب لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقلته وبعدهم عن راميه وكونهم غير مستقبلين كلهم له ، ولأجل هذا الفرق ذكر مفعول القتل مثبتا ومنفيا- وهو ضمير المشركين- فنفى القتل المحسوس مطلقا وأثبت المعقول مطلقا لعدم تعارضهما فالمراد من كل منهما ظاهر بغير شبهة ، ولو أثبت لهم القتل مع نفيه عنهم بأن قال:إذ قتلتموهم –لكان تناقضا ظاهرا يخفى وجه جعل المثبت من غير المنفي .وقتلهم لهم مشاهد لا يحتاج إلى إثبات من حيث كان سببا ناقصا ، وإنما الحاجة إلى بيان نقصه وعدم استقلاله بالسببية ، ثم بيان ما لولاه لم يكن وهو إعانة الله ونصره .
وأما رمي النبي صلى الله عليه وسلم لوجوه القوم فلم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين ولا غير مشاهد ، والجمع بين نفيه وإثباته لا يوهم التناقض للعلم بعدم السببية .ولم يذكر مفعول الرمي بأن يقال ( وما رميت وجوههم ) إذ لا شبهة هنا في عدم استطاعة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا استقلالا بكسبه العادي ، وأما هنالك فالظاهر أن القتل من كسبهم الاستقلالي .والحقيقة أنه لولا تأييد الله تعالى ونصره بما تقدم بيانه لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل ، وقد علمنا ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال ومجادلة النبي صلى الله عليه وسلم فيه{ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} فلو ظلوا على هذه الحالة المعنوية مع قلتهم وضعفهم لكل مقتضى الأسباب أن يمحقهم المشركون محقا .
وأما الفرق بين فعله تعالى في القتل وفعله في الرمي فالأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل التي تقدم بيانها كما هو الشأن في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل في حصول غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة ، كقوله تعالى:{ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما} [ الواقعة:63- 65] الخ فالإنسان يحرث الأرض ويلقي فيها البزر ولكنه لا يملك إنزال المطر ولا إنبات الحب وتغذيته بالتراب المختلف العناصر ، ولا دفع الجوائح عنه .ولا يستقل إيجاد الزرع وبلوغ ثمرته صلاحها بكسبه وجده .وأما الثاني فهو من فعله تعالى وحده بدون كسب عادي للنبي صلى الله عليه وسلم في تأثيره فالرمي منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فمثله في ذلك كمثل أخيه موسى عليه السلام في إلقائه العصا{ فإذا هي حية تسعى} [ طه:20] فخاف منها أولا كما ورد في سورتي طه والنمل .
هذا ما يدل عليه نظم الكلام بلا تكلف ولا حمل على المذاهب والآراء الحادثة من كلامية وتصوفية وغيرها ، فالجبري يحتج بها على سلب الاختيار وكون الإنسان كالريشة في الهواء ، والاتحادي يحتج بها على وحدة الوجود ، وكون العبد هو الرب المعبود ، والأشعري يحتج بها على الجمع بين كسب العبد وخلق الرب بإسناد الرمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الخالق عز وجل .وهو يغني عن إسناد القتل إلى المؤمنين بالأولى ، والقرآن فوق المذاهب وقبلها ، غني بفصاحته وبلاغته عن هذه التأويلات كلها{ كل حزب بما لديهم فرحون} [ المؤمنون:53] وكلام الله فوق ما يظنون .
وأما موقع الفاء في أول الآية على القول بأن الآية السابقة عليها نزلت قبل القتال تحريضا عليه فقد قيل إنها واقعة في جواب شرط مقدر واختلفوا في تقديره وقال بعضهم بل هي لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض ، وقد يقال إنه لا مانع من نزولها بعد المعركة ووصلها بما قبلها للدلالة على ما ذكرنا من التعليل والاحتجاج على مشروعية النهي عن الهزيمة وأولى منه أن يستدل بها على نزول ما قبلها في ضمن السورة بعد المعركة .
وأما قوله تعالى:{ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} فهو معطوف على تعليل مستفاد مما قبله ، أي أنه فعل ما ذكر لإقامة حجته وتأييد رسوله{ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} بالنصر والغنيمة وحسن السمعة .والبلاء الاختبار بالحسن أو بالسيئ كما قال تعالى في بني إسرائيل{ وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [ الأعراف:168] وتقدم بيانه بالتفصيل وختم الآية بقوله:{ إن الله سميع عليم} وهو تعليل مستأنف للبلاء الحسن والمراد أنه تعالى سميع لما كان من استغاثة المؤمنين مع الرسول ربهم ودعائهم إياه وحده ، عليم بصدقهم وإخلاصهم ، وبما يترتب على استجابته لهم من تأييد الحق الذي هم عليه وخذلان الشرك ، كما أنه سميع لكل نداء وكلام ، عليم بالنيات الباعثة عليه ، والعواقب التي تنشأ عنه ، وبكل شيء .