{وَضَآئِقٌ}: فاعل من ضاق ،بمعنى ما يضيق به صدرك ،وضيق الصدر: كناية عن الغمّ والحزن .
{كَنزٌ}: ما يدخر من المال ،وهو في الشرع كل مال لا يخرج منه حق الله تعالى من الزكاة وغيرها .
طروحات استعراضية للتشكيك بالدعوة
...وينطلق الحديث بوضوحٍ عن المشاكل التي تعترض مسيرة النبيّ في رسالته ،فتعمل على خلق جو نفسي متأزِّم له أمام ما تثيره التحديات الكافرة من مقترحات تعجيزيّة ،لا يستهدف أصحابها منها حلّ مشكلة فكريّة ،أو إزاحة شبهة إيمانيّة ،بل يستهدفون إغراق الرسول بالطلبات التي لا تمثّل شيئاً في طبيعتها أمام الرسالة في مفاهيمها وقضاياها ،وشرائعها ،بغرض شغل الداعية عن مهمته ،وإبعاده عن هدفه ،فيضيق صدره ،وربما يفكر بالتراجع عن بعض ما يريد إثارته ،لأنه لا يشعر بالتجاوب منهم ،بل يرىبدلاً من ذلكتشويشاً وتشويهاً ،وتلاعباً بالمواقف ،وابتعاداً عن الجدّية ،وتهرُّباً من المسؤولية في جوّ من اللاّمبالاة ،يوحي بأن الدعوة لن تحصل على نتيجة ،فلماذا يتعب نفسه ،ويجهد بدنه بما لا طائل منه .
وتلك هي الصورة التي واجهها الرسول( ص ) ،في ما كان يطرحه الكفار من طروحات استعراضية للإيحاء أمام الآخرين ،بضعفه في دعوى نبوّته ،لأنه لا يملك أسباب القوّة التي يعتبرونها علامةً للصدق ،في حركة الأنبياء ،وهيفي زعمهمالقدرة على تغيير الظواهر الكونية ،واجتراح المعجزة استجابة لأيّ اقتراح يقترحه الآخرون .وذلك هو الخطأ الذي قد يعرفونه ولا يجهلونه في التصور ،يتظاهرون بالاعتقاد به ،ليخفوا حقيقة القصد السيّء ،من وراء طروحاتهم ،فإن النبيّ لا يحمل مهمّة تغيير الكون في ظواهره ،بل يتحمل مسؤولية تغييره في مناهجه وطريقة التفكير ،والعمل في خطواته الفكرية والعملية ،من خلال التبليغ والتبشير والإنذار ...ويبقى لله أمره ،في ما يقضي وفي ما يفعل ،لأنه المسيطر على ذلك كله .
مقترحات الكفر
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} ممّا لا يتقبله الكافرون ،ولا ينسجم مع أفكارهم وأهوائهم ،ولا يتوافق مع مصالحهم وأجوائهم ...،لتضمن بذلك رضاهم عنك ،أو لتوفر على نفسك موقف الرفض الذي يوحي به التحدّي الصادر منهم ،ليستريحوا إلى دعوتك في القضايا الآخرى التي لا تثير لديهم مشاكل كثيرة ،لأنها لا تتناول القضايا الحيويّة في واقعهم ،وهذا ما يفعله بعض العاملين من الدعاة إلى الله ،إذ يهملون بعض مسائل الدعوة وأفكارها ،ليحصلوا على النتائج الإيجابية في أصل الموقف ،أو بعض تفاصيله البسيطة التي لا تثير أحداً ،ليكون ذلك هو المدخل إلى قناعات الآخرين وأفكارهم ،لأن الحصول على بعض الموقف المؤيد منهم ،أفضل من خسارة الموقف كله .وربما كانوا خاضعين في ذلك ،لحالةٍ نفسيةٍ انهزاميّةٍ ،تدفعهم إلى التراجع الجزئي عن خط الدعوة ،لضمان التأييد والمحبة والرضى من مجتمعهم ،الذي لا يطيقون إهماله أو غضبه .
{وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} في ما يثيره داخل نفسك من حالات الحرج الشديد ،والمشقة الكبيرة ،تحت ضغط الصراع الداخلي بين ما تريد أن تقوله ،وبين ما لا تريد أن تقوله ،مما يوحي بالأزمة النفسية التي يضيق بها الصدر ،وتضعف معها الروح ،عندما يعرضون عليك بعض ما لا تستطيع القيام به من طلبات تعجيزية لم يمكّنك الله من القيام بها ،ولم يمنحك القدرة عليها .وهناك تقف موقف العاجز أمامهم ،مما ينعكس على موقعك في المجتمع أمام البسطاء الطيبين الذين لا يعرفون خلفيّات الأمور ،ولا مواقع التحدّي التي ينبغي للإنسان الاستجابة لها أو لا .
{أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} مما يعنيه الكنز من امتلاك قوة مالّية تجعله في مواقع الأغنياء القادرين الذين يشعر الآخرون بالهيبة تجاههم ،والضعف أمامهم ،فيستجيبون لهم في ما يدعونهم إليه ،على أساس استجابة الضعيف للقوي .
{أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} ،يرفده بقوةٍ روحيّةٍ كدليل على الدعم السماويّ له ،فإن الملك يؤكد في وعيهم ،مساندة الملائكة في مواجهة التحديات البشرية ،مما يضعف قوّة مواقفهم ،لأن البشر لا يستطيعون الثبات أمام قوّة الملك ،فيتصاغرون أمامه ،خضوعاً لهذه القوّة العجائبيّة القادمة من السماء .
إنما أنت نذير
ولكن ذلك كله لا معنى له ،فلا بد للناس من أن يفهموا دور النبي( ص ) الذي يخطىء الناس في فهمه ،وينحرفون عن معناه ،فليس النبي شخصاً قادماً من الغيب ،أو متحرّكاً في أجوائه ،وليس له من الغيب إلاّ علاقة الوحي الذي لا يدرك الناس سرّه ،وبعض ما يثيره الله أمامه من معاجز أو معلومات غيبيّة ،يرى الله في تعرفه عليها الصلاح لهم ،ولذلك لا مجال للاستجابة إلى مقترحاتهم ،لأنها لا تمثل شيئاً في حسابات المعرفة ،ولأن النبوّة حملت في داخلها عوامل قوّتها ،ولأن الاستجابة لهم تمثل تقريراً للخطأ الذي أقاموا عليه فهمهم لخط النبوّة وشخصيّة النبي ..
{إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} ،بما تنذرهم به من عقاب الله في الدنيا والآخرة ،إذا تركوا الإيمان ،والتزموا بالكفر ،وتمردوا على الله .فإذا قمت بهذا الدور ،فقد قمت بمسؤوليتك خير قيام ولا ضير عليك في ما يتهامسون به بينهم ،أو في ما يثيرونه في الجوّ ضدّك من الإيحاء بضعفك في خطّ المواجهة ،لأن ذلك متروك لله سبحانه ،فهو المسيطر عليهم ،والوكيل على كل شيء يحيط بهم من قريب أو من بعيد ،{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} .
هل كان النبي يخضع للضعف ؟
وهنا يكمن سؤال: ماذا تعني هذه الآية في تقييم شخصية النبي محمد( ص ) فهل كان النبي يضعف أمام التحديات ،لتجيىء هذه الآية وأمثالها من أجل أن تقوّي ضعفه ،أو تُسند له موقفه ،أو تخفّف عنه أحزانه ،وتطيّب به نفسه ،وتزيل عنه آلامه ؟وهل جاءت في أجواء التأنيب الإلهي له ،أو ماذا ؟.
والجواب عنه: إن الآية ليست في مورد الحديث عن الحالة الواقعية الفعلية التي كانت تحيط بموقف النبي( ص ) أو تمثل شخصيته ،بل كانت في مورد تقييم الطبيعة الموضوعية لما يمكن أن تثيره التحديات التعجيزية في الحالة الإنسانية من ضعف يبحث دائماً عن الهروب ،مما يمكن أن يحطّم شخصيته أو يسيء إلى موقعه ،أو يتعقّد من ذلك ،فيتحول إلى مخلوق مختنق بأزمته ،وربّما كان هذا السبب هو السرُّ في الإتيان بكلمة «لعلّ » التي توحي بإمكانيّة الموضوع ،لما تختزنه مثل هذه الأمور من نتائج على مستوى الانفعالات الإنسانية ،في مواجهة عوامل الإثارة .
وبذلك يمكن أن تكون الآية عاملاً وقائياً يريد الله به حماية النبي( ص ) من الوقوع في مثل هذه التجربة ،أو الخضوع لهذا الانفعال ،أو تكون عمليةً إيحائيةً للعاملينمن خلال النبيألاّ يستسلموا لهذه الحالة ،لو واجهوا مثلها ،انطلاقاً من فهمهم لطبيعة الدور الذي أوكله الله إليهم من الدعوة إلى سبيله بالوسائل الواقعية المألوفة ،مما يجعلهم لا يعيشون الضعف في مواجهة هذه التحديات ،لأنهم لا يعتبرونها تحدّياً لدورهم أو لقدرتهم الطبيعيّة ،بل كل ما هنالك ،أنها التحدي لما يتوهمه أولئك من دور ،دون ارتكازٍ إلى علمٍ أو إيمان .