التحدي في مواجهة أساليب الكفار
...وهذا أسلوبٌ من أساليب التشويه لصورة الرسالة والرسول( ص ) في نظر الناس ،فهم ينسبون إلى الرسول أنه افترى على الله كذباً ،في ما نسبه إليه من هذا الكتاب ،لأنهم يدّعون أنه من صنع النبي ومن إبداعه ،أو أنه أساطير الأوّلين اكتتبها ،علَّمه إيّاه المعلّمون الذين يعرفون أساطير الأوّلين وعلومهم ،وبذلك تتحول الرسالة إلى مضمونٍ مفترىً ،لا حقيقة له .
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}على الله ،يوحي الله به إليه ،وهو لا يمكن أن يكون رسولاً من قبله ،لأن الرسول بنظرهم لا يمكن أن يكون بشراً .ولكن كيف أثبتوا هذا الافتراء ،وما الوثائق التي قدّموها في دعواهم ،من مقارنةٍ بين هذا القرآن وبين أساطير الأوّلين ،أو من إثباتاتٍ تؤكد دراسة النبيّ على غيره من أساتذة الديانات الآخرى ،أو من عرض التاريخ التفصيلي للنمو العلمي والثقافي لشخصية النبيّ ،في ما درسه ،وفي ما ناقش فيه ،وفي ما أثاره من قضايا وأمور فكرية قبل النبوّة ؟!!
افتراضات لا تثبت أمام النقد
ليس هناك شيء من ذلك ،وإذا كانت هناك بعض الأشياء التي حُدِّثنا عنها من قبيل ،{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [ النحل: 103] ،أو:{أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [ الفرقان:5] ،فإنها لم تكن إلاّ افتراضاتٍ وأوهاماً لا تثبت أمام النقد ،ولا ترتكز على أساس ،بناء على ما حدّثنا به القرآن ،أو تحدّث به التاريخ ،لأن مثل هذه الأمور لا تخفى على أحد لو كان لها أساسٌ من الحقيقة ،لأن التحديات المضادّة للنبيّ وللنبوّة كانت تفرض كثرة الحديث عنها لو توفرت .
مع ذلك ،فإن القرآن لم يدخل في مناقشة هذا الموضوع معهم في هذه الآية ،لأنهم لم يكونوا في موقع يسمح بدخول الآخرين في نقاش حُرٍّ معهم لمعرفتهم ،مقدّماً بخسارتهم في ظل فقدان الحجّة القويّة في ما ادّعوه وقالوه .بل أطلق في وجههم التحدي الذي يدفع بهم إلى موقع الدفاع ،بعدما كانوا في موقع الهجوم ،وهذا أبلغ أسلوب في مواجهة التعنُّت والتمرُّد والعناد ،فإنه يحطّم زهو الطرف الآخر ،عما يحاول أن يظهره من القوّة ،في ما يثيره من تحدّيات وتهاويل .
بماذا تحدى القرآن الآخرين ؟
{قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} أي مماثلة لهذه السور التي تعتبرونها مفتريات فإذا كان ما أقوم به بشرياً ،فإن البشر الآخرين بما يملكون من قدرة ،أو بما يحصلون عليه منها بالدراسة والتدريب والتفكير ،يمكن أن يقوموا بمثلها .
وقد أثار المفسرون عدة أسئلة في مقام التعليق على هذه الآية:
منها: عن سرّ التحدي بالقرآن ،هل هو في إطار البلاغة والفصاحة ،وإذا كان الأمر كذلك ،فما معنى تحدّي الآخرين من غير العرب في ذلك ،فإن عجزهم عنه ،لا يعني نفي قدرة البشر الذين يملكون المعرفة في هذا المجال ،وما معنى الحديث في آية أخرى ،عن عدم اختلاف آيات القرآن ،كأساس لإثبات أنه من الله{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفاً كَثِيراً} [ النساء:82] ؟؟وعلى ضوء هذه المناقشة ،فإن بعض المفسرين يرى: أن التحدي «عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية ،والحجج والبراهين الساطعة ،والمواعظ الحسنة ،والأخلاق الكريمة ،والشرائع الإلهية ،والأخبار الغيبيّة ،والفصاحة والبلاغة » .
ولكن من الممكن التحفظ على ذلك بأنّ التحدي إنما يكون بالمعجز الذي لا يستطيعه أحد ،بالوسائل التي يملكها الناس ،في ما يستعملونه لمثل هذه الأمور ،وهذا مما قد نستطيع الموافقة عليه في مجموع القرآن من خلال ضمّ بعضه إلى بعض ،في ما اشتمل عليه من أسرار الكون والحياة والإنسان والتشريع ،ومن قضايا الغيب ،بالأضافة إلى أسلوبه البليغ .ولكن كيف نستطيع الموافقة على ذلك في التحدي بالسورة ،أو بالسور العشر ،التي يمكن أن تكون مشتملة على معنى محدود ،لا يمثل شيئاً من الأسرار الخفيّة أو المطالب العالية ،أو الأمور الغيبيّة ،أو العملية ،التي لم يكن الناس يملكون وسائلها ،أو التي يمكن للناس أن يصلوا إليها بدون وسائل ،كما هو الحال في عصر النبي محمد( ص ) ،فكيف يمكن أن نفهم التحدي والإعجاز في ذلك ؟
من هنا يمكن القول ،بأن التحدي بالسورة أو بأكثر منها يوحي بأن الإعجاز لا بد أن يكون مشتركاً بين السورة في حدودها ،وبين القرآن كله ،وليس ذلك إلا ما ذكروه من قضية البلاغة والفصاحة .أما الأمور الآخرى ،فإنها قد تكون دليلاً على الصدق ،لا مظهراً للإعجاز ،وقد تحدثنا قليلاً عن ذلك في تفسير سورة البقرة ،أما الحديث عن تحدي كل البشر ،فهو أسلوب كنائيّ يريد الإيحاء بأن المسألة إلهيّة لا بشريّة .
و«منها » عن رقم العشرة ،ما خصوصيته ؟وما المراد منه ؟وقد آخْتُلِفُ في ذلك دون الوصول إلى نتيجة حاسمة .ولعلّ أقرب هذه الوجوه إلى الصواب ما ذكره صاحب مجمع البيان ،في كتابه ،قال: «فإن قيل: لمَ ذكر التحدي مرّةً بعشر سور ،ومرّةً بسورة ،ومرّةً بحديث مثله ؟فالجواب: أَن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام ،فيجوز أن يتحدى مرّةً بالأقل ومرّةً بالأكثر » .
وقد علّق على هذا صاحب الميزان بقوله: «أقول: وهو يصلح وجهاً لأصل التحدّي بالواحد والكثير ،وأما التحدي بالعشر بعد الواحدة ،ولا سيّما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب ،فلا » .ولكن من الممكن أن يكون مقصود صاحب مجمع البيان ،هو أن الرقم لا خصوصية له ،بل يذكر كنموذج للقلّة في التعبير بالواحد ،وقد يذكر كنموذج للكثرة في التعبير بالعشرة ،أو بغيرها في ما تعارف عند العرب من أساليب التعبير ،والله العالم .
الألوهية قدرة مطلقة
{وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في ما يمكن أن تواجهوا به القرآن ،من قدرة المحاكاة ،ممن تعتبرونهم شركاء الله ،فإن مستوى الشريك لا بد أن يكون مساوياً في القدرة لمستوى شريكه في موضوع الألوهية ،التي تفرض القدرة المطلقة التي لا يعجزها شيء .هذا إذا كان المقصود بكلمة{مِّن دُونِ اللَّهِ} الشركاء الذين يدعونهم من دون الله ،أما إذا كان المقصود بها كل من هو غير الله ،فيكون كنايةً عن كل من يملك القدرة على ردّ التحدّي عبر ما يملكه من معلومات ،لأن ذلك لا بد أن يكون ملحوظاً في كل حالات التحدّي ،سواءً أريد به التحدي بالبلاغة ،أم التحدي بجميع العناصر التي اشتمل عليها القرآن .فكما لا يمكن توجيه التحدّي لمن لا يعرف العربية ،كذلك لا يمكن توجيهه لمن لا يعرف شيئاً من أسرار الكون ،ومن معارف الحياة من الأميين ،أو الجاهلين ،الذين لم يأخذوا من أسباب العلم بشيء حتى القراءة والكتابة .