{أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرضِ}: أوجدكم منها .
{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}: من العمران ،أي: جعلكم تعمرونها .
وإلى ثمود أخاهم صالحا
...وهذا نبيٌّ من أنبياء ما قبل التاريخفي ما يقالأرسله الله إلى قومه ثمود الذين كانوا من العرب العاربة ،ومن سكان القرى الواقعة بين المدينة والشام ،كما يذكر بعض المفسّرين ،وليس لدينا أي مصدر تاريخيٍّ موثوق يحدثنا عن تفاصيل حياتهم ،بل المصدر الصحيح هو القرآن الذي يفيدنا بأنهم كانوا أمّة من العرب على ما يدل عليه اسم نبيّهم ،وقد كان منهم ،نشأوا بعد قوم عاد ولهم حضارة ومدنيّة ،وكانوا يعمرون الأرض ،ويتخذون من سهولها قصوراً ،وينحتون من الجبال بيوتاً آمنين ،كما جاء في قوله تعالى:{وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} [ الأعراف:74] .ومن شغلهم الفلاحة بإجراء العيون وإنشاء الجنّات والنخيل والحرث:{وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [ الشعراء:148] .
ثمود تخاف على امتيازاتها
وقد كانوا يعيشون في ضلال الوثنيّة والشرك ،تحت تأثير ساداتهم وكبرائهم الذين كانوا يتحكمون بالتوجيه الفكري والعملي لأتباعهم ،ويوحون إليهم بأن طاعتهم هي السبيل الأقوم لنجاحهم وحصولهم على الخير والرشاد .ولذلك فإن المتتبّع لأصواتهم وأصوات أمثالهم لا يشعر بأنها تنطلق من حالة اقتناع ومعاناة ،بل يشعر أنها أصوات الآخرين المستكبرين الذين يوحون إليهم زخرف القول غروراً .لذا كانت مشكلة هؤلاء مع الأنبياء أنهم يدعون إلى عبادة الله الواحد حيث تسقط كل الرموز البشرية وغير البشرية في الأرض ،فلا يبقى إلا وحيه ،ولا يحكم إلاّ شرعه ،ولا يُترك لأي بشري مجال الحصول على أي امتياز إلا من خلال عمله ،بينما كانت حياة هؤلاء متحركةً من خلال الامتيازات التي فرضوها لأنفسهم ،وأقنعوا الآخرين باستحقاقهم لها بما يملكونه من مال أو قوّة أو جاه ،وفي ما كانوا يدّعونه لأنفسهم من حق الولاية على الناس لرعايتهم الأصنام ،ووكالتهم عنها ،إلى غير ذلك من الخرافات والأضاليل ،الأمر الذي يجعل صراعهم ضد الأنبياء صراعاً من أجل حماية مصالحهم ،لا من أجل حماية خط تفكيرهم .
التصور الديني للحياة
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وتلك هي الدعوة الواحدة التي تلخّص كل شرائع الله وكل تعاليمه ،فالله هو المنطلق في كل شيء ،والمرجع في كل أمر ،فله الخضوع كله ،وله الأمر كله .وهذا هو جوهر التصور الديني للحياة ،فإما أن يكون الإله الذي يلتقي الكون أمامه هو الله ،وإما أن يكون غيره ،ولكلٍّ منهما خطوطٌ وآفاقٌ وتعاليم وأهداف ...فلا مجال للشركة ،ولا مجال للتبعيض .
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرْضِ} فمنها خلقتم ،فأنتم جزءٌ من ترابها ،ولكن بصورة أخرى ،تتحرك فيها الحياة ،وينطلق معها الفكر ،{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي وطلب منكم عمرانها وإحياءها ،بما تملكونه من طاقات الفكر وإمكانات العمل ،للاستمرار في العيش ،لأن للعيش شروطاً ،لا بد للإنسان من توفيرها وتحصيلها إذا وجّه طاقاته نحوها ،وهذا ما سخّره الله للإنسان في ما أودعه في الأرض من ثروات ،وفي ما أعدّه من أدوات ،ومكّنه فيها من قدرات .
وفي هذا الجو ،لا بد للإنسان من عيش الإحساس العميق بالارتباط بالله ،عند استجابته لدعوة الأرض للارتباط بها ،ليعرف بأنّ ارتباطه التكويني بالأرض من خلال قدرة الله ،يفرض عليه الانفصال العملي عنها ،عندما تقوده إلى التمرُّد على الله ،أو عندما تثير فيه ميل الاستسلام للشهوات ،بعيداً عن خط المبادىء ،وحركة الرسالات ،لأن الله ،الذي خلق الأرض ،وخلق الإنسان منها ،هو الذي يحكم في كل ما يدور فيها ،ويتحرك عليها ،لأنه صاحب السلطة في ذلك كله ،وهو العالم بالصلاح والفساد في جميع موارده ومصادره .
{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} لأن أوّل خطوة يخطوها الإنسان على طريق تصحيح الخطأ وتقويم الانحراف عن خط الإيمان ،هي الوقفة المعترفة النادمة المعبرة عن حالة التراجع ،وذلك بالاستغفار الذي يتوسل فيه الإنسان إلى الله ،أن يقبله ضمن من غفر له ذنوبه ،وبالتوبة التي تعبّر عن حالة الندم العميق على الماضي ،والعزم على التصحيح في المستقبل ،ليبدأ السير في الخط المستقيم الجديد من حاضر لا يثقله الماضي ،ومن روح لا ترهقها الذكريات السوداء ،لأن التوبة تمحو ذلك كله ،ولأن الغفران يحوّل ظلمة المعصية إلى إشراقة الطاعة ،{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} فهو ليس بعيداً عن دوافع المعصية في الإنسان ،من شهوات وأهواء قد تغلبه ،لأنه خالقه ،وهو ليس بعيداً عن تطلّعات الإنسان للمغفرة ،وأحلامه في الرحمة ،فهو قريبٌ إلى روحه وفكره وشعوره وحياته ،بحيث لا يوجد أقرب إليه منه .فيلجأ إليه لحل كل مشكلة ،ولإقالة كل عثرة ،ولتخفيف كل همٍّ وألم .فهو المجيب لكل دعواته وطلباته للرحمة وللمغفرة في شؤون الدنيا والآخرة ،وذلك هو الطريق المستقيم .
دعوة صالح تصدم القوم
ولكن القوم يواجهونهعوضاً عن الإيمان بالرسالةبخيبة أملهم فيه ،فقد كانوا يجدون فيه الشخص العاقل الوديع الذي يفكر بالأمور بطريقة معقولة موزونة ،فلا يبتعد في تفكيره عن واقع المجتمع ،ولا يتمرّد على تقاليده ،ولا يسيء إلى أوضاعه ،كما هو شأن كل الرموز الاجتماعية المحترمة ،التي تكسب احترامها من محافظتها على التوازن في العلاقات الاجتماعية بما لا يزعج الساحة ولا يتنكر للمألوف .ولهذا فقد كانت دعوة صالح لهم بمثابة الصدمة التي أخذتهم بعنصر المفاجأة .