التّفسير
قصّة ثمود:
انتهت قصّة «عاد قوم هود » بجميع دروسها بشكل مضغوط ،وجاء الدور الآن لثمود «قوم صالح » وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام ،حسب ما تنقله التواريخ عنهم .
ونرى هنا أيضاً أنّ القرآن حين يتحدث عن نبيهم «صالح » يذكره على أنّه أخوهم ،وأي تعبير أروع وأجمل منه حيث بيّنا قسماً من محتواه في الآيات المتقدمة ،أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلاّ الخير لجماعته ( وإلى ثمود أخاهم صالحاً ) .
ونجد أيضاً أنّ منهج الأنبياء جميعاً يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب ( قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) .
ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم الله المهمّة التي استوعبت جميع وجودهم فقال: ( هو أنشأكم من الأرض ) .
فأين هذه الأرض والتراب الذي لا قيمة له ،وأين هذا الوجود العالي والخلقة البديعة ؟ترى هل يجيز العقل أن يترك الإنسان خالقه العظيم الذي لديه هذه القدرة العظيمة وهو واهب هذه النعم ،ثمّ يمضي إلى عبادة الأوثان التي تثير السخرية .
ثمّ يُذكّر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم أُخرى موجودة في الأرض حيث قال: ( واستعمركم فيها ) .
وأصل «الاستعمار » و «الإعمار » في اللغة يعني تفويض عمارة الأرض لأي كان ،وطبيعي أنّ لازم ذلك يجعل الوسائل والأسباب في اختيار من يفوّض إليه ذلك تحت تصرفه !
هذا ما قاله أرباب اللغة ،كالراغب في المفردات ،وكثير من المفسّرين في تفسير الآية المتقدمة .
ويَرِدُ احتمال آخر ،وهو أنّ الله منحكم عمراً طويلاً في هذه الأرض ،وبديهي أنّ المعنى الأوّل وبملاحظة مصادر اللغة هو الأقرب والأصح كما يبدو .
وعلى كل حال فهذا الموضوع يصدق بمعنييه في ثمود ،حيث كانت لديهم أراض خصبة وخضراء ومزارع كثيرة الخيرات والبركات ،وكانوا يبذلون في الزراعة ابتكارات وقدرات واسعة ،وإلى ذلك كله كانت أعمارهم مديدة وأجسامهم قويّة وكانوا متطورين في بناء المساكن والبيوت ،كما يقول القرآن الكريم: ( وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين ){[1783]} .
الطريف هنا أنّ القرآن لم يقل: إنّ الله عمر الأرض وجعلها تحت تصرفكم ،وإنّما قال: وفوّض إليكم إعمار الأرض ( واستعمركم فيها ) وهي إشارة إلى أنّ الوسائل معدّة فيها لكل شيء وعليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل والسيطرة على مصادر الخيرات فيها .وبدون ذلك لا حظّ لكم في الحياة الكريمة .
كما يستفاد ضمناً أنّه ينبغي من أجل الإعمار أن يعطي المجال لأُمّة معينة في العمل ،وتجعل الأسباب والوسائل اللازمة تحت تصرفها وفي اختيارها .
فإذا كان الأمر كذلك ( فاستغفروه ثمّ توبوا إليه إن ربّي قريب مجيب ) لدعواتكم .
الاستعمار في القرآن وفي عصرنا الحاضر:
لاحظنا في الآيات المتقدمة أنّ نبي الله «صالحاً » من أجل هداية وتربية قومه الضالين «ثمود » ذكرهم بعظيم خلق الله لهم من التراب ..وتفويض إعمار الأرض إليهم إذ قال: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ...) .
لكن هذه الكلمة مع جمالها الخاص وجاذبيتها التي تعني العمران وتفويض الاختيارات وإعداد الوسائل اللازمة وتهيئتها ،تبدّلت هذه الكلمة في عصرنا إلى درجة أنّها مُسخت وأصبحت تعطي معنىً معاكساً لمفهوم القرآن تماماً .
وليست كلمة الاستعمار وحدها انتهت إلى هذا المصير المشؤوم ،فهناك كلمات كثيرة في العربية وفي لغات أُخرى مسخت وحُرّفت وتبدّلت وانقلبت رأساً على عقب ،مثل كلمات «الحضارة » و«الثقافة » و «الحرية » وفي ظلال هذه التحريفات تأخذ هذه الكلمات وأمثالها طريقها إلى التغرّب والبعد عن معناها ،وتتحول لعبادة المادة وأسر الناس وإنكار الحقائق والتوغل في كل أنواع الفساد وما إلى ذلك .
وعلى كل حال ،فإنّ معنى «الاستعمار » في عصرنا ومفهومه الواقعي هو «استيلاء الدول العظمى السياسية والصناعية على الأمم المستضعفة قليلة القدرة ،بحيث تكون نتيجة هذا «الاستيلاء » وهذه «الغارة » امتصاص دمائهم وسلب خيراتهم ومصادرة حياتهم .
هذا الاستعمار الذي له أوجه شؤم مختلفة ،يتجسم مرّة بشكل «ثقافي » وأُخرى بوجه «فكري » وثالثة بوجه «اقتصادي » ورابعة بوجه «سياسي » وقد يبدو بوجه «عسكري » أيضاً ،وهو الذي بدل دنيانا وجعلها سوداء مظلمة ،فالأقلية في هذه الدنيا لديهم كل شيء ،والأكثرية العظمى فاقدة لكل شيء هذا الاستعمار هو السبب في الحروب والدمار والانحرافات والفساد والتسابق التسليحي الذي يقصم الظهر .
القرآن استعمل لهذا المفهوم مفردة «الاستضعاف » التي تنطبق تماماً على هذا المعنى أي «جعل الشيء ضعيفاً » بالمعنى الواسع والشامل للكلمة ،جعل الفكر ضعيفاً ،وجعل الاقتصاد ضعيفاً ،وجعل السياسة ضعيفة ..الخ ..
وقد اتسع مجال الاستعمار إلى درجة بحيث أصبحت كلمة الاستعمار «استعمارية » أيضاً ،وذلك لأنّ مفهومها اللغوي قد انقلب رأساً على عقب تماماً .
وعلى كل حال ،فإن الاستعمار من القَصَصِ الطويلة المثيرة للحزن والألم ،بحيث يمكن أن يقال أنّه يستوعب تاريخ البشرية أجمع وإن تغيّر وجهه دائماً ،ولكن من غير المعلوم أنّه متى يزول من المجتمعات الإنسانية ،وتقوم حياة البشر على أساس التعاون والاحترام المتبادل بين الناس والمساعدة ليتقدم الواحد بعد الآخر في جميع المجالات ...؟!