{وَرَاوَدَتْهُ}: المراودة: المطالبة بأمر بالرفق واللين .
{وَغَلَّقَتِ}: التغليق: إطباق الباب بما يعسر فتحه .
{هَيْتَ}: أقبل أو أسرع .
تجربة الإغراء الصعبة
وبدأت التجربة الصعبة في حياته ،فها هو يواجه الإغراء بأشدّ صوره ،مما لا يملك الامتناع عنه ،إذا أراد لحياته أن تستمر في النعيم الذي يتقلّب فيه ،والامتيازات التي يملكها ،وإلا فَقَدَ ذلك كله ،مع خطر على الحرية التي يعيش فيها ،وخوف على حياته من الهلاك .
إنه في سن المراهقة حيث تتفتح الغرائز في فضاء الشهوة ،وتضيع المشاعر في أجواء العاطفة ،ويلتهب فيها الجسد في نيران الأحاسيس ،ويتحرك فيها الإنسان في غيبوبة الأحلام الضبابيّة المبهمة التي تثير الجوّ من حوله ،ليحسّ بأنه يسبح في بحورٍ من الحب والخيال ،مواجهاً المزيد من أمواج الحسّ التي تطغى على فكره وحكمته .
ففي البيت تعيش امرأةٌ تضج شهوةً وعاطفةً إزاء ما يملك من حسن في ملامحه الجميلة ،وهي في الوقت نفسه ،امرأةٌ تتبوأ مواقع السلطة والقدرة ،فلا يردّ لها أحد طلباً ،ولا تمتنع عنها رغبةٌ ،سواءٌ من قبل زوجها ،أم من قبل أصحاب النفوذ الذين يحيطون بها ،فكيف بهذا الشاب الذي لا حول له ولا قوّة ،لأنه عبدٌ مملوكٌ اشتراه زوجها بماله ليخدمه ويخدمها ويستجيب لكل طلباتهما ورغباتهما ،وقد كانت تشعر أن ما تريده من قضاء الشهوة معه ،لا يمثل إلا بعض الرغبات الطبيعية التي يجب عليه تلبيتها كعبد لأسياده .وبدأت عملية الإغراء والمعاناة معاً ،وتحركت كل الضغوط الجسدية والخارجية لتلاحق إرادته لتسقطها أمام التجربة الصعبة .
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ} في عملية هجوم عاطفي يوحي إليه بأجواء الإغراء ،ويحرّك فيه مكامن الشهوة ،ويمنع عنه طريق الهروب ،ولعل في التعبير بأنه في بيتها إيحاءً بالجو الضاغط الذي يحيط به ،لتوفره على الاختلاط والسيطرة اللذين يسهّلان مهمة السقوط .{وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} في صوت يشبه الفحيح المحموم الذي يخرج من أعماق الغريزة ،فقد استعدت كل الاستعداد الروحي والشعوري والجسدي لهذا الموقف ،واعتبرت الحصول على ما تريده حالةً طبيعيّةً ،ومهمةً سهلةً لا تحتاج إلا إلى طلب الاستجابة من يوسف ،ولهذا كانت الدعوة بهذا الأسلوب الذي يختصر الموقف في كلمة مشبعة بالرغبة الحميمة «هلّم إليّ » ،ولكن يوسف كان في عالمٍ آخر ،فهو لا يعيش الاستغراق في عالم الحس وتحقيق الارتواء الغريزي ،كقيمة إنسانية حيوية يستهدفها الشباب عموماً ،بل يعيش لنداء الروح ،في ما تنطلق به من روحية الإيمان ،وإحساس الوفاء ،فهو لا ينظر إلى ما في داخله من أشواق الحسّ ،بل يتطلع إلى ما في روحه من آفاق السموّ نحو الله ،وهذا ما عبّر عنه في كلمته التي صوّرها الله لنا بقوله:{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} في كلمة مؤمنة موحية تعبّر عن الرفض الحازم من جهة ،وعن اللجوء إلى الله ،والاستجارة به من هذا النداء الشّبِق المفعم باللهفة والإغراء ،الذي يكاد يفترس منه روح الطهر ،ويدفعه إلى العهر والفجور .
مواجهة الإحسان بالإحسان
ثم انطلق ليتحسّس المسألة من جهة أخرى ،وهي مسألة الوفاء لسيده الذي أحسن مثواه ،فكيف يمكن أن يخونه في زوجته ؟إنه لو فعل ذلك فسوف يحس بالاحتقار لنفسه ،كما يحس أيّ خائن ،{إِنَّهُ رَبِّي} الذي رباني بما تتضمنه الكلمة من معنى التربية والرعاية والسيادة ،{أَحْسَنَ مَثْوَاي} في ما أعدّه لي من منزلٍ وإحسانٍ وحرّيةٍ وراحةٍ ،فلا بد من أن أواجه الإحسان بالإحسان ،فلا أظلمه بالإساءة إليه وخيانته مع زوجته ،لأن ذلك لن يحقق لي النجاح والفلاح في عواقب الأمور ،{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الذين يظلمون أنفسهم بالمعصية ،ويظلمون غيرهم بالخيانة ،لأن النتائج لن تكون في صالح دنياهم أو آخرتهم .
وقد ذهب بعض المفسرين إلى إنّ الحديث عن الله لا عن سيدّه ،فقد استعاذ يوسف به من الخضوع لإغراء الشهوة ،ثم عبّر عن إحساسه بنعمة الله بالمستوى الذي يردعه عن الاندفاع للخيانة ،ولهذا كان من المناسب إثارة جانب الاحترام الذي يشعر به يوسف تجاه سيّده ،وربما كان التعبير بكلمة{رَبِّى} متعارفاً في الحديث عن السيّد المالك في ذلك المجتمع ،كما أن كلمة{أَحْسَنَ مَثْوَايَّ} قد تكون أقرب إلى علاقة يوسف بزوجها الذي رعاه وحماه من التشرّد والضياع الذي يعاني منه العبيد عادة بالانتقال في أسواق النخاسة من مالك إلى مالك ،ومن بلد إلى بلد ،بينما كان ليوسف في قلب هذا الإنسان موقع الولد ،كما عبّر{أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وإن لم يصل ذلك إلى مستوى التبني ،ولو كان الحديث عن الله لكان من المناسب الحديث عن النعم الكبيرة التي تتصل بوجوده وخلقه ورعايته في كل الأمور .
أما عدم تقدّم ذكره ،أو قرب ذكر لفظ الجلالة من موقع الضمير ،فليس بشيء يحقق الظهور لما يريدونه ،لأن الحديث عنه قد تقدّم في قوله ،{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} كما أن جوّ الحادثة يوحي به بشكل بارز ،فإن الموقف من الزوجة التي تريد خيانة زوجها يبعث على التفكير بالزوج بطريقةٍ طبيعيّةٍ ،تماماً كما لو ذكر باللفظ .
إنها ملاحظات قد ترجّح الوجه الذي نستقربه ،والله هو العالم بحقائق آياته .