{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ( 23 ) ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ( 24 ) واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ( 25 )}
[ مسألة المراودة والهم والمطاردة]
{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} هذه الجملة معطوفة على جملة وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه وما عللها به من حسن الرجاء فيه ، وما بيّنه الله تعالى من عنايته به وتمهيد سبيل الكمال له بتمكينه في الأرض ، يقول:إن هذه المرأة التي هو في بيتها نظرت إليه بغير العين التي نظر إليها بها زوجها ، وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراده الله من فوقهما ، هو أراد أن يكون قهرمانا أو ولدا لهما ، والله أراد أن يمكن له في الأرض ويجعله سيد البلاد كلها ، وهي أرادت أن يكون عشيقا لها ، وراودته عن نفسه أي خادعته عنها وراوغته لأجل أن يرود أو يريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته هو إرادة ربه ، والله غالب على أمره ، قال في المصباح المنير:أراد الرجل كذا إرادة وهو الطلب والاختيار ، وراودته على الأمر مراودة وروادا من باب قاتل طلبت منه فعله وكأن في المراد معنى المخادعة لأن المراود يتلطف في طلبه تلطف المخادع ويحرص حرصه .
وقال الراغب:المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد ، أو ترود غير ما يرود ، وذكر شواهد الآيات في هذه القصة ومنها قول إخوة يوسف له{ سنراود عنه أباه} [ يوسف:61] أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل أخاه معنا .وقال في أساس البلاغة:وراوده عن نفسه خادعه عنها وراوغه ، وقال في الكشاف:المراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، كأن المعنى خادعته عن نفسه ، أي فعلت ما يفعل المخادع عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التحليل لمواقعته إياها ، ولو رأت منه أدنى ميل إليها وهي تخلو به في مخادع بيتها لما احتاجت إلى مخادعته بالمراودة ، ولما خابت في التعريض له بالمغازلة والمهازلة ، تنزلت إلى المكاشفة والمصارحة ، إذ كان كل ما سبقه منها وحدها لم يشاركها فيه .
{ وغلقت الأبواب} أي أحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه وباب البهو الذي يكون أمام الحجرات والغرف في بيوت الكبراء وباب الدار الخارجي ، وقد يكون في أمثال هذه القصور أبواب أخرى متداخلة{ وقالت هيت لك} أي هلم أقبل وبادر ، زيادة"لك "بيان للمخاطب كما يقولون هلم لك وسقيا لك .واقتصر على هذا في التنزيل ، وهو منتهى النزاهة في التعبير ، والله أعلم بما زادته من الإغراء والتهييج الذي تقتضيه الحال ، ونقل رواة الإسرائيليات عنها وكذا عنه من الوقاحة ما يعلم بالضرورة أنه كذب ، فإن مثله لا يعلم إلا من الله تعالى أو بالرواية الصحيحة عنها أو عنه ولا يستطيع أن يدعي هذا أحد كما يأتي قريبا .وهيّت اسم فعل قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبضمها كحيث ، وروي أنها لغة عرب حوران ، وكان سبب اختيارها أنها أخصر ما يؤدي المراد بأكمل النزاهة اللائقة بالذكر الحكيم ، وهو ما لم يعقله أولئك الرواة لما يخالفه ويناقضه .
{ قال معاذ الله} أي أعوذ بالله معاذا أو أتحصن به ، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين الفاسقين ، كما قال بعد أن استعانت عليه بكيد صواحبها من النسوة:{ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} [ يوسف:33] .
وجملة قال معاذ الله الخ بيان مستأنف لجواب يوسف مبني على سؤال تقديره:وماذا قال بعد تسفل المرأة وهي سيدته إلى هذه الدركة من التذلل له ؟ وهو كما قالت مريم ابنة عمران للملك الذي تمثل لها بشر{ إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا} [ مريم:18] وعلل هذه الاستعاذة{ إنه ربي أحسن مثواي} أي إنه تعالى ولي أمري كله أحسن مقامي عندكم وسخركم لي بما وفقني له من الأمانة والصيانة فهو يعيذني ويعصمني من عصيانه وخيانتكم ، ويحتمل أنه أراد بربه مالكه العزيز في الصورة وإن كان حرا مظلوما في الحقيقة ، كما يقال رب الدار ، وكان من عرفهم إطلاقه على الملوك والعظماء كما يأتي في قوله عليه السلام لساقي الملك في السجن{ اذكرني عند ربك} [ يوسف:42] ولكن الله عاقبه أنه لم يذكر حينئذ ربه ، فكان نسيانه له سببا لطول مكثه في السجن كما يأتي ، ثم إنه قال لرسول الملك .إذ جاءه يطلبه لأجله{ ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} [ يوسف:50] وعلى هذا القول وقد جرى عليه الجمهور يكون الضمير في"أنه "ما يسمونه ضمير الشأن والقصة أي إن الشأن الذي أنا فيه هو أن سيدي المالك لرقبتي قد أحسن معاملتي في إقامتي عندكم وأوصاك بإكرام مثواي فلن أجزيه على إحسانه بشر الإساءة وهو خيانته في أهله ، وهذا التفسير تعليل لرد مراودتها بعد الاستعاذة بالله منها ، لا تعليل للاستعاذة نفسها كالأول ، والفرق بينهما دقيق لما بينهما من العموم في الأول والخصوص في الثاني ، ثم علل امتناعه بما هو خاص بنزاهة نفسه فقال:
{ إنه لا يفلح الظالمون} لأنفسهم وللناس كالخيانة لهم والتعدي على أعراضهم وشرفهم ، لا يفلحون في الدنيا ببلوغ مقام الإمامة الصالحة والرياسة العادلة ، ولا في الآخرة بجوار الله ونعيمه ورضوانه .وفي جملة الجواب من الاعتصام والاعتزاز بالإيمان بالله والأمانة للسيد صاحب الدار والتعريض بخيانة امرأته له المتضمن لاحتقارهم ما أضرم في صدرها نار الغيظ والانتقام ، مضاعفة لنار الغرام ، وهو ما بينه تعالى بقوله مؤكدا بالقسم لأنه مما ينكره الأخيار من شرور الفجار:{ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ( 24 )}