{ ولقد همت به} أي وتالله لقد همت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها ، وهي في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه ، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة ، ومراودة عن نفسها لا مراوِدة ، حتى إن حماة الأنوف من كبراء الرجال ، ليطئطئون الرؤوس للفقيرات الحسان ربات الجمال ، ويبذلون لهن ما يعتزون به من الجاه والمال ، بل إن الملوك ليذلون أنفسهم لمملوكاتهم وأزواجهم ولا يأبون أن يسموا أنفسهم عبيدا لهن ، كما روي عن بعض ملوك الأندلس:
نحن قوم تذيبنا الأعين النج *** ل على أننا نذيب الحديدا
فترانا لدى الكريهة أحرا *** را وفي السلم للملاح عبيدا
ولكن هذا العبد العبراني الخارق للطبيعة البشرية في حسنه وجماله ، وفي جلاله وكماله ، وفي إبائه وتألهه ، قد عكس القضية ، وخرق نظام الطبيعة والعوائد بين الجنسين ، فأخرج المرأة من طبع أنوثتها في إدلالها وتمنعها ، وهبط بالسيدة المالكة من عزة سيادتها وسلطانها ، ودهور الأميرة [ الأرستقراطية] من عرش عظمتها وتكبرها ، وأذلها لعبدها وخادمها ، بما هونه عليها:قرب الوساد ، وطول السواد{[1785]} والخلوة من وراء الأستار والأبواب ، حتى إنها لتراوده عن نفسه في مخدع دارها ، فيصد عنها علوا ونفارا ، ثم تصارحه بالدعوة إلى نفسها فيزداد عتوا واستكبارا ، معتزا عليها بالديانة والأمانة ، والترفع عن الخيانة ، وحفظ شرف سيده وهو سيدها وزوجها وحقه عليها أعظم ، إن هذا الاحتقار لا يطاق ، ولا علاج لهذا الفاتن المتمرد إلا تذليله بالانتقام ، هذا ما ثار في نفس هذه المرأة المفتونة بطبيعة الحال [ كما يقال] وشرعت في تنفيذه أو كادت ، بأن همت بالبطش به في ثورة غضبها ، وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان ، وأكثر بما ترويه لنا منه قضايا المحاكم وصحف الأخبار ، وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله وهو قوله تعالى:
{ وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله تعالى:{ والله غالب على أمره} [ يوسف:21] وهو إما النبوة التي تلي الحكم والعلم الذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد ، وشاهده قوله تعالى{ قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [ النساء:174] وإما معجزتها كما قال تعالى لموسى في آيتي العصا واليد{ فذانك برهانان من ربك} [ القصص:32] وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا وهي مراقبته لله تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه ، وفاقا لما قاله أخوه محمد خاتم في تفسير الإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ){[1786]} فيوسف قد رأى هذا البرهان في نفسه ، لا صورة أبيه متمثلة في سقف الدار ، ولا صورة سيده العزيز في الجدار ، ولا صورة ملك يعظه بآيات من القرآن ، وأمثال هذه الصور التي رسمتها أخيلة بعض رواة التفسير المأثور بما لا يدل عليه دليل من اللغة ولا العقل ولا الطبع ولا الشرع ، ولم يرو في خبر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح ولا فيما دونها ، وما قلناه هو المتبادر من اللغة ووقائع القصة ، ومقتضى ما وصف الله به يوسف في هذا السياق وغيره من السورة ولا سيما قوله في أوله{ وكذلك نجزي المحسنين} [ الأنعام:84] وما فسر النبي صلى الله عليه وسلم به الإحسان ، وقوله في تعليله .
{ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} أي كذلك فعلنا وتصرفنا في أمره لنصرف عنه دواعي ما أرادته به أخيرا من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء ، بحصانة أو عصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه ، فلا يصيبه شيء يخرجه من جماعة المحسنين الذين شهدنا له بأنه منهم ، إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو في رده عليها بأنهم لا يفلحون وشهادته حق .
{ إنه من عبادنا المخلصين} بفتح اللام وهم آباؤهم الذين أخلصهم ربهم وصفاهم من الشوائب وقال فيهم 83:45{ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} [ ص:45-47] وقد قلنا في أول القصة ، إن يوسف هو الحلقة الرابعة في سلسلتهم الذهبية ، وإن أباه بشره بذلك بعد أن قص عليه رؤياه إذ قال له:{ وكذلك يجتبيك ربك} فالاجتباء هو الاصطفاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر [ المخلصين] بكسر اللام ، والقراءتان متفقتان متلازمتان فهم مخلصون لله في إيمانهم به وحبهم وعبادتهم له ، ومخلصون عنده بالولاية والنبوة والعناية والوقاية من كل ما يبعدهم عنه ويسخطه عليهم ، والجملة تعليل لصرف الله السوء والفحشاء عنه ، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء فإنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما ، وهمه لأول وهلة بدفع صيالها هم بأمر مشروع وجد مقتضيه مقترنا بالمانع منه وهو رؤيته برهان ربه فلم ينفذه ، فكان الفرق بين همها وهمه أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها من خيبتها وإهانته لها فلما رأى أمارى وثوبها عليه استعد للدفاع عن نفسه وهم به ، فكان موقفهما موقف المواثبة ، والاستعداد للمضاربة ، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر هي مثله ، فألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي تم به حكمته سبحانه وتعالى فيما أعده له فلجأ إلى الفرار ترجيحا للمانع على المقتضى ، وتبعته هي مرجحة للمقتضى على المانع حتى صار جزما ، واستبقا باب الدار ، وكان من أمرهما ما يأتي بيانه في الآية التالية ، وتقدم عليه رأي الجمهور في الهم من الجانبين .
رأي الجمهور في همت به وهم بها وبيان بطلانه
ذهب الجمهور المخدوعون بالروايات إلى أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا مانع منها ، وهم هو بمثل ذلك ولولا أن رأى برهان ربه لاقترفها ، ولم يستح بعضهم أن يروي من أخباره اهتياجه وتهوكه فيه ووصف انهماكه وإسرافه في تنفيذه ، وتهتك المرأة في تبذلها بين يديه ، ما لا يقع مثله إلا من أوقح الفساق المسرفين المستهترين ، الذين طال عليهم عهد استباحة الفواحش وألفتها حتى خلعوا العذار ، وتجردوا من جلابيب الحياء ، وأمسوا عراة من لباس التقوى وحلل الآداب ، كأهل مدنية هذا العصر من الرجال والنساء في مواخير البغاء السرية ، وما يقرب منه في حمامات البحر الجهرية ، حتى كادوا يعيدون للعام فجور مدينة [ بومباي] الرومانية ، التي خسف الله بها وأمطر عليها من براكين النار مثلما أمطر على قرية قوم لوط من قبلها ، فإن مثل هذا الذي افتروه في قصة هذا النبي الكريم لا يقع مثله ممن ابتلي بالمعصية أول مرة من سليمي الفطرة ، ولا من سذج الأعراب الذين لم تغلبهم سورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وإيمانهم وحيائهم من نظر ربهم إليهم ، فضلا عن نبي عصمه الله ووصفه بما وصف وشهد له بما شهد .
وقد بلغ ببعضهم [ كالسدي] الجهل بالدين والوقاحة وقلة الأدب أن يزعموا أن يوسف عليه السلام لم ير برهانا واحدا بل رأى عدة براهين من رؤية والده متمثلا له منكرا عليه ، وتكرار وعظه له ، ومن رؤية بعض الملائكة ونزولهم عليه بأشد زواجر القرآن بآيات من سوره ، فلم تنهه عن غيّه ، حتى كان أن خرجت شهوته من أظافره ، ومعنى هذا أنه لم يكف إلا عجزا عن الإمضاء ، أفبهذا صرف الله عنه السوء والفحشاء ، وكان من عباد الله الملخصين ، وأنبيائه المصطفين المجتبين الأخيار ؟
ولئن كان عقلاء المفسرين أنكروا هذه الروايات الإسرائيلية الحمقاء ، حماية لعقيدة عصمة الأنبياء ، فإنه لم يكن يسلم أحد من تأثير بعضها في أنفسهم ، وتسليمهم لهم أن الهم من الجانبين كان بمعنى العزم على الفاحشة ، إلا من خالف قواعد اللغة فقال إن قوله تعالى:{ وهمّ بها} جواب لقوله{ لولا أن رأى برهان ربه} ومن قال إن جوابه محذوف دل عليه ما قبله ، فهو على هذين القولين لم يهم بشيء ، وهو خلاف المتبادر من العبارة أو ظاهرها ، وتأوله بعضهم بأن همه بالفاحشة بمقتضى الداعية الفطرية لا ينافي العصمة وإنما ينافيها طاعتها بدليل ما صح في الحديث أن من هم بسيئة ولم يفعلها لم تكتب عليه ، وأن امتناعه عنها بترجيح داعية الإيمان وطاعة الله تعالى مع طغيانها وإلحاحها الطبيعي عليه أدل على الإيمان والطاعة من كونه لم يفعلها كراهة لها وعزوفا عنها لقبحها ، ولهم تأويلات من هذا ولقد كانوا لولا تأثير الرواية في غنى عنها .
والتأويل الأخير أوله مقبول وآخره مردود ، فههنا مرتبتان إحداهما الكف عن المعصية جهادا للنفس وكبحا لها خوفا من الله تعالى ، وهي مرتبة الصالحين الأبرار ، ومرتبة الكراهة لها والاشمئزاز منها حياء من الله ومراقبة له واستغراقا في شهوده ، وهي مرتبة الصديقين والنبيين الأخيار ، الذين إذا عرضت لهم الشهوة المستلذة بالطبع ، بالصورة المحرمة في الشرع ، عارضها من وجدان الإيمان ، وتجلي الرحمان ، ما تغلب به روحانيتهم الملكية ، على طبيعتهم الحيوانية ، وهذا مما قد يحصل لمن دون الأنبياء منهم ، فكيف بمن يرون برهان ربهم بأعين قلوبهم ، وينعكس نوره عن بصائرهم فيلوح لأبصارهم ، كما أشرنا إليه في تفسيره آنفا ؟
ولهذه المرتبة درجات منها فقد الشهوة الطبيعية في هذه الحال ، أو فقد الشعور بالقدرة على وضعها في الموضع المحرم مع وجودها على أشدها ، ولا عجب فقوى النفس وانفعالاتها الوجدانية تتنازع فيغلب أقواها أضعفها .حتى إن من الإباحيين والإباحيات من أهل الحرية الطبيعية من يملك في مثل تلك الخلوة منع نفسه أن يبيحها لن يراوده عنها ، لا خوفا من الله ولا حياء منه لأنه غير مؤمن به أو بعقابه ، بل وفاء لزوج أو عشيق عاهده على الاختصاص به فصدقه .
حدثنا مصور سوري كان زير نساء فاسق أنه كان في بعض الولايات المتحدة الأمريكانية فأعلن في بعض الجرائد أنه يطلب امرأة جميلة لأجل أن يصورها كما يشاء بجعل معين من المال وهذا معهود عند الإفرنج ، فجاءه عدة من الحسان اختار إحداهن وخلا بها في حجرته الخاصة وأوصد بابها ، وأمرها بالتجرد من جميع ثيابها ، فتجردت فطفق يصورها على أوضاع مختلفة من انتصاب وانحناء ، وميل والتواء ، وإقبال وإدبار ، وهو لا يفكر في غير إتقان صناعته ، فعرض لها دوار في رأسها ، فجلست على أريكة للاستراحة فجلس بجانبها ، وأنشأ يلاعبها ويداعبها وهي ساكنة ساكتة ، فتنبه في نفسه من الشعور ما كان غافلا أو نائما ، فراودها عن نفسها ، فتمنعت بل امتنعت ، فعرض عليها المال فأعرضت ، فقال لها أنت حرة في نفسك ولكني أرجو منك أن تجيبيني عن سؤال علمي هو ما بيان سبب هذا الامتناع ؟ قالت سببه أنني عاهدت رجلا يحبني وأحبه على أن يكون كل منا للآخر لا يشرك في الاستمتاع به أحدا ، ولا يبتغي به بدلا ، فقال لها إني أهنئك وأحترم وفاءك هذا ، ثم أتم صناعته ونقدها الجعل المعين فأخذته وانصرفت .
والراجح عندي أن هذه المرأة لم تشته مواتاة هذا الرجل فتجاهد نفسها على الامتناع ، وأن المانع من اشتهائه توطين نفسها على الوفاء لعشيقها الأول حتى لم تعد تتوجه إلى الاستمتاع بغيره ، وتوجيه النفس إلى الشيء أو عنه هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة ، وتربية الإرادة هي أصل التخلق بالفضائل والتخلي عن الرذائل باتفاق الحكماء والصوفية ، ويسمي هؤلاء سالك طريق الحق مريدا ، والواصل إلى غايته مرادا ، أي مجتبى مختارا ، وهو لا يكون على كماله إلا لأصحاب الإيمان اليقيني الوجداني ، ومن ذاق عرف ، ومن حرم انحرف ، كما قال أستاذنا في رسالة التوحيد ، ولقد عجبنا أن أنكر علينا بعض المحرومين عن هذا ممن نعدهم بحق من الصالحين قولنا في المقصورة الرشيدية فيمن امتنع من رقية صدر فتاة حسناء:
أتت فتى خاف مقام ربه -- ما زال ينهي نفسه عن الهوى
لم يقترف فاحشة قط ولم--يعزم ولا هم بها ولا نوى
بغرة منها وصفو نية--في معزل تشهيه أقصى ما اشتهى
مما يمنيه به شيطانه --من حيث لا يطمع منه في خنا
لكنه استعصم راويا لها--ما أمر الله به وما نهى
إذ ظن المنكر فيه أنه فضل نفسه على يوسف عليه السلام ، وأين هذا من ذاك .
وجملة القول إن أعظم مزايا البشر في قوة الإرادة فلولاها لكان الإنسان كالحيوان الأعجم عبد الطبيعة ، ولذلك كانت المراودة احتيالا لتحويل الإرادة وجعلها خاضعة للمراودة ، وإنما يظفر فيها من كانت إرادته أقوى ، وفوق ذلك عناية الله تعالى [ فتأمل وتدبر]
فإذا كان في أهل الإباحة والحرية المطلقة من تملك إرادتها ولا تلين لمراودها ، ولا يغريها المال وهو المعبود الأكبر لأمثالها في بلادها ، فيحملها على نقض عهدها في مثل تلك الخلوة وذلك التجرد بين يدي مصورها ، ولقد كان من أجمل الشباب ، وأبرعهن في تصبي النساء ، أفيكثر أو يستغرب في رأي أولئك الرواة أن يكون يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم في وراثته الفطرية والأدبية ومقام النبوة عن آبائه الأكرمين ، وما اختصه به ربه وكونه هو الغالب على أمره من تربيته وعنايته ، وما شهد له به من العرفان والإحسان والاصطفاء ، وما صرف عنه من دواعي السوء والفحشاء ، وما قص علينا من شهادة تلك المرأة له على نفسها بقولها{ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} [ يوسف:32] أي استمسك بعروة العصمة الوثقى التي لا انفصام لها ، ثم ما شهد له به صواحبها من المراودات من قولهن{ حاش لله ما علمنا عليه من سوء} [ يوسف:51] أي أدنى شيء سيء ، ثم ما أيدت به شهادتهن من قولها{ الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} [ يوسف:51] أيكثر عليه أو يستغرب منه أن يكون أملك لنفسه من تلك المرأة الإباحية ، أو بمنجاة من الهم الذي زعموه ، وصوروه بشر ما تصوروه ، أو بما صوره لهم مضلوهم من زنادقة اليهود ليلبسوا عليهم دينهم ، ويشوهوا به تفسير كلام ربهم ثم يكون منتهى شوط المنكرين عليهم أن يتأولوا تفسيرهم تأويلا ، والقرآن يتبرأ منه بلغته وأسلوبه وأدبه وهدايته والعبرة المرادة منه لخاتم رسله والمؤمنين به ، ولا يغرنك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة والتابعين ، فلو لم يكن لنا من الأدلة على وضعها عليهم أو تصديقهم لقول بعض اليهود فيها إلا بطلان موضوعها في نفسه ، وكونه من علم الغيب في القصة التي لم يعلم رسول الله منها غير ما قصه الله عليه في هذه السورة كما صرح به في الآية [ 102] آخرها – لو لم يكن لنا من أدلة وضعها غير هذا لكفى ، فكيف وهي مخالفة للقرآن في لغته كمخالفتها له في هدايته أيضا .
ردّ قول الجمهور في تفسير همها وهمه عليه السلام
فأنا أرد على جميع من فسروا هم المرأة بغير ما اخترته لا همه وحده ، وأقول لولا الغرور بالروايات الباطلة لم يخطر لأحد منهم غيره ، أرد عليهم بعبارة القرآن في مدلولها اللغوي فهو حجة عليهم فأقول:
أجمع أهل اللغة على أن الهم إنما يكون بالأعمال ، لا بالشخوص والأعيان وتحقيق معناه أنه مقاربة فعل تعارض فيه المانع والمقتضي فلم يقع لرجحان المانع ، وهو الموافق لقول علماء الأصول في التعارض الأعم ، ولكن رجحان المانع هنا قد يكون بإرادة صاحب الهم ومنه هم يوسف ، وقد يكون من غيره ومنه هم هذه المرأة:كان همهما واحدا وهو البطش بالضرب أو ما في معناه ، وكان المانع منه إرادته هو وعجزها هي بهربه ، وهاك الشواهد على القسمين .
حكى الله عن المشركين في سورتي الأنفال والتوبة أنهم{ هموا بإخراج الرسول} [ التوبة:13] صلى الله عليه وسلم من بلده مكة ، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم خافوا أن يستجيب له غيرهم من العرب فيقوى أمره فرجحوا المانع بإرادتهم ، وحكى عن المنافقين أنهم{ هموا بما لم ينالوا} إذ حاولوا أن يشردوا به بعيره في العقبة منصرفه من غزوة تبوك ، فلم ينالوا مرادهم عجزا منهم وحفظا من ربه له صلى الله عليه وسلم وفي معناه قوله تعالى له{ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك} [ النساء:113] ولكنه قدم هنا لولا فكان دليلا على أنهم فكروا في ذلك وما قاربوا وقال في بعض المؤمنين{ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} [ آل عمران:122] أي تتركا المضي مع الرسول للقتال يوم أحد جبنا وإتباعا لعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين ، ولكن غلب عليهما داعي الإيمان فلم تفشلا وهو المعبر عنه بقوله تعالى:{ والله وليهما} فرجحتا المانع من الفشل بالمقتضي للجهاد .
وفي المسند والصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يأمر رجلا يصلي بالناس ثم يأمر من يحرق على المتخلفين عن صلاة الجمعة بيوتهم- وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي"ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم ){[1787]} يعني صلى الله عليه وسلم إنهم يستحقون هذا حتى كاد يفعله ولكنه امتنع ترجيحا للمانع على المقتضى .
إذا علم هذا فمن الجلي أنه لا يصح تفسير [ ولقد همت به] بهذا المعنى الذي أثبتناه بشواهد الكتاب والسنة إلا بما قررناه ، وأن ما قاله الجمهور باطل لمخالفته له ، بل للغة القرآن وهدايته ، وإنما خدعتهم به الروايات الباطلة ، وبيانه من وجوه:
أولها:أن الهم لا يكون إلا بفعل الهام ، والوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه ، وهذا التمكين هو الذي يثبت به دخول الزوجية الذي تستحق فيه المرأة النفقة من زوجها كما هو مقرر في الفقه .
ثانيها:أن يوسف عليه السلام لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمي قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه منه هما لها ، فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته أيضا .
ثالثها:لو أن ذلك وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: "ولقد هم بها وهمت به "لأن الأول هو المقدم بالطبع والوضع وهو الهم الحقيقي ، والهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه .
رابعها:أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها أدنى تردد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضي له ، فإذن لا يصح أن يقال إنها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا إنه كان قبولا لطلبه ومواتاة له ، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه ، وهو الذي يصح فيما حققناه من إرادة تأديبه بالضرب على أهون تقدير ، فهذا هو المتبادر من نص اللغة ومن السياق وأقربه قوله عز وجل .