وهنا يبلغ أمر يوسف وامرأة العزيز إلى أدقّ مرحلة وأخطرها ،حيث يعبّر القرآن عنه تعبيراً ذا مغزى كبير( ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ) .
وفي معنى هذه الجملة أقوال بين المفسّرين يمكن تصنيفها وإجمالها إلى ثلاثة تفاسير:
1إنّ امرأة العزيز كانت تريد أن تقضي وطراً مع يوسف ،وبذلت وسعها في ذلك ،وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشراً شابّاً لم يتزوّج ويرى نفسه إزاء المثيرات الجنسيّة وجهاً لوجه ...لولا أن رأى برهان الله ...أي روح الإيمان والتقوى وتربية النفس ،أضف إلى كلّ ذلك مقام العصمة الذي كان حائلا دون هذا العمل !
فعلى هذا يكون الفرق بين معاني «همّ » أي القصد من امرأة العزيز ،والقصد من قبل يوسف ،هو أنّ يوسف كان يتوقّف قصده على شرط لم يتحقّق ،أي ( عدم وجود برهان ربّه ) ولكن القصد من امرأة العزيز كان مطلقاً ،ولأنّها لم يكن لديها مثل هذا المقام من التقوى والعفّة ،فإنّها صمّمت على هذا القصد حتّى آخر مرحلة ،وإلى أن اصطدمت جبهتها بالصخرة الصمّاء !
ونظير هذا التعبير موجود في الآداب العربيّة وغيرها كما نقول مثلا: إنّ جماعة لا ترتبط بقيم أخلاقية ولا ذمّة صمّمت على الإغارة على مزرعة فلان ونهب خيراته ،ولولا أنّي تربّيت سنين طوالا عند اُستاذي العارف الزاهد فلان ،لأقدمت على هذا العمل معهم .
فعلى هذا كان تصميم يوسف مشروطاً بشرط لم يتحقّق ،وهذا الأمر لا منافاة له مع مقام يوسف من العصمة والتقوى ،بل يؤكّد له هذا المقام العظيم كذلك .
وطبقاً لهذا التّفسير لم يبدُ من يوسف أي شيء يدلّ على التصميم على الذنب ،بل لم يكن في قلبه حتّى هذا التصميم .
ومن هنا فيمكن القول أنّ بعض الرّوايات التي تزعم أنّ يوسف كان مهيّئاً لينال وطراً من امرأة العزيز ،وخلع ثيابه عن بدنه ،وذكرت تعبيرات أُخرى نستحيي من ذكرها ،كلّ هذه الأُمور عارية من الصحّة ومختلقة ،وهذه أعمال من شأن الأفراد والمنحرفين الملوّثين غير الأنقياء .فكيف يمكن أن يتّهم يوسف مع هذه المنزلة وقداسة روحه ومقام تقواه بمثل هذا الاتهام .
الطريف أنّ التّفسير الأوّل نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) في عبارة موجزة جدّاً وقصيرة ،حيث يسأله المأمون «الخليفة العبّاسي » قائلا: ألا تقولون أنّ الأنبياء معصومون ؟فقال الإمام: «بلى » .فقال: فما تفسير هذه الآية ( ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ) فقال الإمام ( عليه السلام ): «لقد همّت به ،ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت ،لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه » فقال المأمون: لله درُّك يا أبا الحسن{[1866]} .
2إنّ تصميم كلّ من امرأة العزيز ويوسف لا علاقة له بالوطر الجنسي ،بل كان تصميماً على ضرب أحدهما الآخر ..
فتصميم امرأة العزيز على هذا العمل كان لعدم انتصارها في عشقها وبروز روح الانتقام فيها ثأراً لهذا العشق .
وتصميم يوسف كان دفاعاً عن نفسه ،وعدم التسليم لطلب تلك المرأة .
ومن جملة القرائن التي تذكر في هذا الموضوع:
أوّلا: إنّ امرأة العزيز كانت قد صمّمت على نيل الوطر الجنسي قبل هذه الحالة ،وكانت قد هيّأت مقدّمات هذا الأمر ،فلا مجالإذنلأنّ يقول القرآن: إنّها صمّمت على هذا العمل الآن ،لأنّ هذه الساعة لم تكن ساعة تصميم .
وثانياً: إنّ ظهور حالة الخشونة والانتقام بعد هذه الهزيمة أمر طبيعي ،لأنّها بذلت ما في وسعها لإقناع يوسف ،ولمّا لم توفّق إلى ما رغبت فيه توسلّت بطريق آخر ،وهو طريق الخشونة والضرب .
وثالثاً: إنّنا نقرأ في ذيل هذه الآية ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) والمراد بالفحشاء هو التلوّث وعدم العفّة ..والمراد بصرف السوء ،هو نجاته من مخالف امرأة العزيز ،وعلى كلّ حال فحين رأى يوسف برهان ربّه ...تجنّب الصراع مع امرأة العزيز وضربها ،لأنّه قد يكون دليلا على تجاوزه وعدوانه عليها ،ولذا رجّح أن يبتعد عن ذلك المكان ويفرّ نحو الباب .
3ممّا لا شكّ فيه أنّ يوسف كان شابّاً يحمل جميع الأحاسيس التي في الشباب ،وبالرغم من أنّ غرائزه كانت طوع عقله وإيمانه ..إلاّ أنّ مثل هذا الإنسانبطبيعة الحاليهيج طوفان في داخله لما يشاهده من مثيرات في هذا المجال ،فيصطرع العقل والغريزة ،وكلّما كانت أمواج المثيرات أشدّ كانت كفّة الغرائز أرجح ،حتّى أنّها قد تصل في لحظة خاطفة إلى أقصى مرحلة من القوّة ،بحيث لو تجاوز هذه المرحلة خطوة لهوى في مزلق مهول ،ولكنّ قوّة الإيمان والعقل ثارت في نفسه فجأة وتسلّمت زمام الأُمور في انقلاب عسكري سريع وكبحت جماح الشهوة .
والقرآن يصوّر هذه اللحظة الخاطفة الحسّاسة والمتأزّمة التي وقعت بين زمانين هادئينفي الآية المتقدّمةفيكون المراد من قوله تعالى: ( وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ) إنّ يوسف انجر إلى حافّة الهاوية في الصراع بين الغريزة العقل ،ولكن فجأةً ثارت قوّة الإيمان والعقل وهزمت طوفان الغريزة{[1867]} ..لئلاّ يتصوّر أحد أنّ يوسف عندما استطاع أن يخلّص نفسه من هذه الهاوية فلم يقم بعمل مهمّ ،لأنّ أسباب الذنب والهياج الجنسي كانت فيه ضعيفة ..كلاّ أبداً ..فهو في هذه اللحظة الحسّاسة جاهد نفسه أشدّ الجهاد .
ما المراد من بُرهان ربّه ؟
«البرهان » في الأصل مصدر «بَرِهَ » ومعناه «صيرورة الشيء أبيضاً » ثمّ اُطلق هذا اللفظ على كلّ دليل محكم قوي يوجب وضوح المقصود ،فعلى هذا يكون برهان الله الذي نجّى يوسف نوعاً من الأدلّة الإلهيّة الواضحة ،وقد احتمل فيه المفسّرون احتمالات كثيرة ،من جملتها:
1العلم والإيمان والتربية الإنسانية والصفات البارزة .
2معرفته بحكم تحريم الزنا .
3مقام النبوّة وعصمته من الذنب .
4نوع من الإمداد الإلهي الذي تداركه في هذه اللحظة الحسّاسة بسبب أعماله الصالحة .
5هناك رواية يستفاد منها أنّه كان في قصر امرأة عزيز مصر صنم تعبده ،وفجأةً وقعت عيناها عليه ،فكأنّها أحسّت بأنّ الصنم ينظر إلى حركاتها الخيانيّة بغضب ،فنهضت وألقت عليه ستراً ،فاهتزّ يوسف لهذا المنظر ،وقال: أنت تستحين من صنم لا يملك عقلا ولا شعوراً ولا إحساساً ،فكيف لا أستحيي من ربّي الخبير بكلّ شيء ،والذي لا تخفى عليه خافية ؟.
فهذا الإحساس منح يوسف قوّة جديدة ،وأعانه على الصراع الشديد في أعماق نفسه بين الغريزة والعقل ،ليتمكّن من التغلّب على أمواج الغريزة في نفسه{[1868]} .
وفي الوقت ذاته لا مانع أن تكون جميع هذه المعاني منظورة ،لأنّ مفهوم البرهان العام يستوعبها جميعاً ،وقد أطلقت آيات القرآن كلمة «البرهان » على كثير من المعاني المتقدّمة .
أمّا الرّوايات التي لا سند لها والتي ينقلها بعض المفسّرين ،والتي مؤدّاها أنّ يوسف صمّم على الذنب ،ولكنّه لاحظ فجأةً حالة من المكاشفة بين جبرئيل ويعقوب وهو يعضّ على إصبعه ،فرأى يوسف هذا المنظر وتخلّف عن إقدامه على هذا الذنب ..فهذه الرّوايات ليس لها أي سند معتبر ..وهي روايات إسرائيلية أنتجتها الذهنيات البشرية الضيّقة التي لم تدرك مقام النبوّة أبداً .
والآن لنتوجّه إلى تفسير بقيّة الآية إذ يقول القرآن المجيد: ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه كان من عبادنا المخلصين ) .وهي إشارة إلى أنّ هذا الإمداد الغيبي والإعانة المعنوية لإنقاذ يوسف من السوء والفحشاء من قبل الله لم يكن اعتباطا ،فقد كان عبداً عارفاً مؤمناً ورعاً ذا عمل صالح طهّر قلبه من الشرك وظلماته ،فكان جديراً بهذا الإمداد الإلهي .
وبيان هذا الأمر يدلّ على أنّ مثل هذه الإمدادات الغيبية ،في لحظات الشدّة والأزمة التي تدرك الأنبياءكيوسف مثلاغير مخصوصة بهم ،فإنّ كلّ من كان في زمرة عباد الله الصالحين المخلصين فهو جدير به هذه المواهب أيضاً .
/خ24