{هَمَّتْ}: الهم: العزم على الفعل .
ولقد همت به ..وهمّ بها
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} في اندفاعها نحوه ،من أجل أن تحتويه بكل ما لديها من عاطفة وشهوة وإغراء في حركة ضاغطة ،مشبوبة من موقع الضعف الأنثويّ الغريزيّ الذي لا يرتكز في الجانب الآخر من الشخصية على قاعدة من العقل والإيمان اللذين يمكن لهما أن يحقّقا حالةً من التوازن والانضباط .وهكذا رأت أن الظروف الصعبة التي يعيشها هذا الغلام الجميل الذي وضعته الأقدار تحت سلطتها ،تساعدها على تحقيق أغراضها الغريزية منه ،فيستسلم لسلطتها وإغرائها{وَهَمَّ بِهَا} في حالة شعورية طبيعية ،يتحرك فيها الإنسان غريزياً من دون تفكير ،لأنّ من الطبيعي لأيّ شاب يعيش في أجواء الإثارة أن ينجذب إليها ،تماماً ،كمن تتحرك غريزة الجوع في نفسه بكل إفرازاتها الجسدية عندما يشمّ رائحة الطعام ،وهذا أمر يلتقي فيه المؤمن بغير المؤمن ،لأنه من شؤون الإحساسات الغريزية للجسد ،ولكن القضية تتناول الموقف الذي يحدّد للإنسان شخصيته من مواقع الإيمان والالتزام ،أو مواقع الكفر والانفلات .وهكذا نتصور موقف يوسف ،فقد أحسّ بالانجذاب نحوها لا شعورياً ،وهمّ بها استجابةً لذلك الإحساس ،كما همّت به ،ولكنه توقّف وتراجع ،ورفض الحالة بحزم وتصميم ،لأن موقفه ليس متعمداً ،كما هو موقفها ،ليندفع به نحو النهآية ،كما اندفعت هي ،ولكن انجذابه الجسدي كان يشبه التقلص الطبيعي ،والاندفاع الغريزيّ .
الموقف اليوسفي
إنها لحظةٌ من لحظات الإحساس ،عبرّت عن نفسها ثم ضاعت وتلاشت أمام العقيدة الراسخة ،والقرار الحازم المنطلق من حسابٍ دقيق لموقفه من الله لو أطاع إحساسه ،وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى:{لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} في ما تعنيه كلمة البرهان من الحجة في الفكرة التي توضح الرؤية ،وتكشف حقيقة الأمر ،فيحسّ ،بعمق الإيمان ،أنه لا يملك آية حجةٍ في ما يمكن أن يُقدم عليه ،بل الحجة كلها لله ،وربما كان جوّ هذه الآية هو جوّ قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [ الأعراف:201] .وقد نستوحي ذلك من مقابلة كلمة{وَهَمَّ بِهَا} لكلمة:{بَلَغَ أَشُدَّهُ} فقد اندفعت إليه بكل قوّة وضراوة واشتهاء ،فحركت فيه قابلية الاندفاع ،وكاد أن يندفع إليها لولا يقظة الحقيقة في روحه ،وانطلاقة الإيمان في قلبه ،وبذلك كان الموقف اليوسفيّ ،انجذاباً وتماسكاً وتراجعاً مستوحىً من الكلمة ومن الجوّ الذي يوحي به السياق معاً .
هل في الآية ما ينافي العصمة ؟
لقد تحدث المفسّرون كثيراً عن تأويل هذه الفقرة لما لها من علاقة بعصمة يوسف ،معتبرين أنه قد لا يكون نبياً آنذاك ،ولكن رأي الكثيرين ،أن العصمة تسبق النبوّة ،كما تلحقها أو ترافقها ،ويرى بعض آخر أن النبي إذا لم يكن معصوماً قبل البعثة ،فمن الطبيعيّ أن يكون ذا مناعة أخلاقية لا تسقط أمام آية حالة من حالات الإغراء ،لأن مسألة النبوّة ليست وظيفة تتعلق بالدعوة ،بل هيّ مسألة تتصل بالعمق المتأصّل في روحية النبيّ من قوّة الشخصية تؤهله للقيام بمهمّة تغيير العالم .
هذا بالإضافة إلى شهادة الله له ،بأنه من عباده المُخلَصين في آخر الآية ،مما يفرض أن يكون الإخلاص لله في العبودية ،سرّاً مركوزاً في شخصيته ،لا حالةً طارئةً عليها .
ولكننا في الوقت الذي نلتقي مع هؤلاء في جوّ الفكرة ،مع بعض التحفظات في تفاصيلها ،نعتقد أن العصمة ،أو المناعة الروحية ،أو القوة الأخلاقية ،لا تتنافى مع الحالة الإنسانية التي تخضع لعوامل التأثر الطبيعيّ الإنساني بالرغبة والرهبة ،بل إن كل ما تؤمنه ،هو الالتزام الفكري والروحي والعملي بالخط المستقيم ،فلا ينحرف في موقف ،ولا يسقط في تجربة ،أما التهاويل والخطرات ،والمشاعر ،فهي أمورٌ طبيعية ،لذلك فلا مجال لإثارة الشبهة حول موقف يوسف ،كما يظهر في الآية ،مما يدفع إلى كثير من التأويل والتكلُّف الذي يبتعد عن المضمون الحقيقي لها .
يوسف ينصرف عن السوء
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ} بما يلهمه الله لعباده من فكر ،وما يثير فيهم من شعور ويفتح لهم من أفق ،بهدف عصمتهم من السقوط أمام التجربة ،أو الانحراف أمام الإغراء ،ليستقيم لهم الدرب في الأفق الواضح ،فيحصلوا على ثقة الأمة ،في مواقع الصدق في القول والعمل ،لتلتزم بما يأمرون أو ينهون عنه ،من موقع الثقة ،وهذا ما أراد الله ليوسف أن يبلغه ،من خلال رؤية البرهان الإلهي الذي استطاع أن يعصم موقفه ،ويضبط مشاعره الحسية ،{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} الذين أخلصوا لله الإيمان ،فاقتربوا من وحيه ،والتزموا بشريعته ،وانسجموا مع هداه ،فرعاهم الله واحتضن روحهم وفكرهم ،وحياتهم العامة والخاصة .ولا بد لنا أن نثير في هذا المجال ،أن الصرف عن السوء والفحشاء ،ليس أمراً بعيداً عن حرية الإرادة والاختيار ،بل هو قريبٌ منها كل القرب ،لأن الله لم يجبره على الابتعاد عن المعصية ،بل أثار أمامه الأفكار التي تبعده عنها بشكلٍ تلقائيّ وعفويّ .