/م23
المفردات:
همت به: عزمت وقصدت مخالطته .
وهم بها: نازعته الشهوة لمخالطتها إلا أنه ضبط نفسه ،وتذكر ربه ؛فامتنع .قال تعالى:{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} .( الأعراف:201 ) .
وهم بها لولا أن
رأى برهان ربه: هنا جواب الشرط محذوف تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ،أما هذا البرهان فقيل: إنه رأى جبريل وقيل: رأى يعقوب .
كذلك: أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه ،وأريناه البرهان .
المخلصين: بفتح اللام أي: الذين أخلصهم الله لطاعته
التفسير:
24{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ...}
كثر كلام المفسرين حول هذه الفقرة وكأنهم أرادوا أن يردوا عن مقام النبوة كل هفوة ؛من ذلك أن السيد رشيد رضا فسرهّم المرأة هنا: بأنها أرادت ضربه ،حيث أذلها وكسر كبرياءها ؛فصممت على ضربه ،وهم بها ليمنعها أو يضربها ؛لولا أن أراه الله برهانا ،ويقينا يدعوه إلى الخروج من المأزق ،والهروب من أمام هذه المرأة ؛طلبا للنجاة ،وكما أكرمه الله سابقا ،أكرمه بهذا التفكير ؛ليصرف الله عنه ارتكاب القتل ،وارتكاب الزنا ؛لأن الله أخلصه وقربه واصطفاه .
وإذا أمعنا النظر في الآية والسياق والأحاديث ؛وجدنا أن الآية تشير إلى هم امرأة العزيز بيوسف .
والهم نوعان:
الأول: هم بمعنى: القصد والعزم والتصميم على التنفيذ .
والثاني: هم بمعنى حديث النفس ،وهو خطرات النفس ،وفي الحديث:"إن الله غفر لأمتي ما حدثت به نفسها ". 9
وهذا الهم الثاني: حديث النفس ،أو خطرات تعرض للنفس ،ثم يتراجع المؤمن ،ويرى أوامر الله صريحة أو برهان الله واضحا في تحريم الفعل والزنا ؛فيكون له ثواب الكف عن المحرم ،وتلك محمدة لا مذمة .
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: ( إذا هم عبدي بحسنة ؛فاكتبوها له حسنة ،فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها ،وإن هم بسيئة فلم يعملها ؛فاكتبوها حسنة ؛فإنما تركها من جرائي ،فإن عملها ؛فاكتبوها بمثلها ) . 10
وقد ذهب إلى هذا المعنى الزمخشري في تفسير الكشاف والإمام الآلوسي ،والأستاذ محمد فريد وجدي في المصحف المفسر حيث قال:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} .أي: قصدت مخالطته ،وقصد مخالطتها ،والهم بالشيء ؛قصده والعزم عليه ،والمراد بهم يوسف: منازعة الشهوة إياه ،لا القصد الاختياري ،وهذا لا يدخل تحت التكليف قط ،بل يثاب المرء على الامتناع عن مجاراته ،وهذا لا يقدح في يوسف ؛فإنه عام في جميع الناس وإنما يتفاضلون في ضبط نفوسهم ،وكف رعونتها . 11
وقال الإمام الآلوسي:
{ولقد همت به} .أي: بمخالطته ،والمعنى: أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ،لا يلويها عنها صارف .
{وهم بها} .أي: مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية ،ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف ،وليس المراد: أنه قصدها قصدا اختياريا ؛لأن ذلك أمر مذموم ..وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر ،على سبيل المشاكلة لا لشبهة به .
{لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} .أي: محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله ،والمراد برؤيته لبرهان الله: كمال إيقانه به ،ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين . 12 ا ه .
والبرهان الذي رآه يوسف ،هو برهان الله المأخوذ على المكلفين ،من وجوب اجتناب المحارم ،أو حجة الله تعالى في تحريم الزنى ،والعلم بما على الزناة من العقاب .وقيل: هو تطهير نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذميمة .
وقد بالغ بعض المفسرين في تفسير هذا البرهان ،فادّعى بعضهم: أن يوسف سمع هاتفا يقول: يا يوسف ،اسمك ،في ديوان الأنبياء ،وتفعل فعل السفهاء !
وادعى بعضهم: بأن يوسف حل سراويله ،وجلس من زليخا مجلس الخاتن ،ثم رأى زليخا تقوم وتغطي صورة صنم موجود ؛فقال لزليخا: تستحين من صنم ،ولا أستحي من رب الأرض والسماء ؟!
وادعى بعضهم: أنه رأى صورة والده يعقوب ،يعض على إصبعه ،ويحذر يوسف ؛فاستحى يوسف من فعل الفاحشة .
وادعى بعضهم: أنه رأى جبريل عليه السلام يحذره من ارتكاب الفاحشة .
ونقول لهؤلاء ما قاله شيوخنا: لو أن أقل الناس حياء وأكثرهم وقاحة ،رأى أمثال ذلك لخجل وذهبت منه كل رغبة في الشهوة ؛فأي فضيلة لهذا النبي الكريم ،الذي مدحه الله ،وسجل شهادة بنزاهته ،ثم قالت النسوة عنه:{حاش لله ما علمنا عليه من سوء} .وقالت امرأة العزيز عنه:{أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} .كل هذه الشهادات تثبت أن يوسف ،ورجوعه إلى الحق والالتزام ؛كان سببه يقين داخلي ،ورغبة ذاتية .وفي هذا المعنى يقول الله تعالى:{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} .( الأعراف: 201 ) .
لقد كان هم يوسف بامرأة العزيز مجرد تفكير في هذا الإغراء ،الذي يزل له عقل البشر ،ثم عصمه الله بالعقل والفكر والتأمل ،والالتجاء إلى الله ،كما قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .( يوسف: 24 ) .
والبرهان هذا هو المفتاح الذي يفتح أبواب النصر على الإغراء ،والارتقاء على حيل الشيطان ؛قد يكون تذكر الموت أو القبر أو الحساب أو الآخرة ،أو الأب الرجل الصالح ،أو الملاك جبريل ،وهو يهبط بالوحي ،أو جلال الله وعظمته وهو مطلع وشاهد ،وكلها براهين تنبع من داخل النفس والوجدان والتصور ،لكنها تتجمع كلها على معنى واحد هو: رقابة الله والتزام أمره واجتناب نهيه ؛لهذا عبر عنها بالمفرد فقال:{لولا أن رءا برهان ربه} .وهو معونة الله للصادقين ،ورعايته للمخلصين ،وعصمته للأنبياء والمرسلين .
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .
رجحنا فيما سبق أن الامتناع عن الزنى مع الخطور بالبال ؛يدل على قوة الوازع ،وقوة الإرادة أكثر من عدم وجوده ،أي: أن يوسف لم يكن عنينا ،ولا حصورا ،وإنما كان بشرا مكتمل الجسم والقوة ،يفكر في هذا الإغراء ،أو يتخيله لأول وهلة ،ثم يعتصم ببرهان الله وتوفيقه .
كما قالت امرأة العزيز للنسوة:{ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} .أي: طلب العصمة وتمسك بها .
وهنا يقول الله تعالى:{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} .
أي: جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك ؛لنصرف عنه دواعي ما أرادت به من السوء ،وما راودته عليه قبله من الفحشاء ؛بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه ،حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين .
رجاء في تفسير الكشاف للزمخشري . 13
{كَذَلِكَ} .الكاف منصوب المحل أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه .
{لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} .من خيانة السيد .
{وَالْفَحْشَاء} .من الزنى .
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .أي: الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم .
ويجوز أن يراد بالسوء: مقدمات الفاحشة من: القبلة ،والنظر بشهوة ،ونحو ذلك .
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .أي: من جملة المخلصين ،أو هو ناشئ منهم ؛لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال الله عنهم:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} .( ص: 4547 ) .