{الدِّينُ الْقَيِّمُ}: هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه .
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} لقد تخيّلتم صوراً في أشياء أو أشخاص ،وتوهمتم قوىً خفيّةً في مخلوقات ،وصنعتم لها من فكركم أسراراً وأوضاعاً وصفات لا واقع لها ،بل هي خيال ،لا تملك من الحقيقة إلا وجودها المادي المحدود الذي يتساوى فيه مع كل الموجودات الأخرى ،أما الربوبيّة أو الألوهية وغيرها من صفات الخالق المعبود ،فلا وجود لها في عمق هذه الأشياء ،فهي مجرد أسماء أطلقتموها عليها دون أيّ أساس لذلك في عناصرها الحقيقيّة .ولكن الله هو الحقيقة التي تحتوي الوجود كله ،وتسيطر عليه ،وتقهر كل القوى فيه ،لأنه مخلوقٌ له ،وخاضع في حركته كلها لإرادته ،وهو الذي تحكم كل مسيرته ،فلا حكم لغيره ،ولا سيطرة لسواه .
الحكم والعبادة لله وحده
{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} فهو الذي يحدّد للإنسان خط العبادة ،وخط السير ،فلا يملك أن يختار لنفسه إلا ما يختاره الله له ،بأوامره ونواهيه ،{أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} بما تمثله العبادة من خضوع له في التشريع ،وفي الحكم ،وفي كل شؤون الحياة ،فلا أمر إلا أمره ،ولا حكم إلا حكمه ،ولا شريعة إلا شريعته ،وهذا ما يجعل الشرك في العبادة ،مسألة لا تتعلق بالجانب العبادي التقليدي على مستوى الصلاة والصيام والحج ونحوها ،بل تتعلق بالخط الذي يتحرك فيه الإنسان في حياته ،وما يلتزم به من أحكامٍ ،وما يعيشه من أوضاعٍ وعلاقات ،فمن اختار شريعةً غير شريعة الله ،ومنهجاً غير منهجه ،وقيادةً غير قيادته التي أراد للناس أن يلتزموها ،فقد أشرك بعبادة الله غيره ،لأن هذا الخط يجسِّد الخضوع المطلق لله في واقع الحياة بما تعنيه العبادة من معنى الخضوع .
الدين القيّم
{ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم الذي يقوم على إدارة شؤون الحياة والإنسان ،ويحكم كل شيء فيها والذي يتلخّص في كلمة واحدة ،هي إخلاص العبادة لله وحده ،فذلك ما يمثل خط السير من البداية إلى النهاية ،ويحدّد الاتجاه ،في كل صعيد .ومن هنا نعرف أن الدين الذي أراده الله لعباده ،هو الذي يعيش الإنسان فيه مع الله في كل شيء ،بحيث يشعر بالارتباط به في الأمور كلها ،ويلتقي به في كل المواقع ،حتى أن كل العلاقات تمر به ،وكل الشرائع تلتقي عنده ،وتبقى كل التفاصيل خاضعةً لهذا الخط في البداية ،وفي خطوات السير ،وفي النهاية ،حيث يبدأ الإنسان منه لينتهي إليه ،دون التواء أو انحراف .وهذا ما يجب أن يفهمه الناس ويسيروا عليه ،{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فينحرفون من موقع الجهل ،لا من موقع التفكير المضاد ،فيبتعدون عن الخط من حيث لا يعلمون .
وهكذا أراد يوسف لهما أن يعيشا هذا الجوّ ،وينفصلا عن أجواء الضلال التي عاشاها في المجتمع الكافر الذي كانا جزءاً منه .ولا ندري هل استجابا له ،أو أنهما كانا يستعجلان معرفة تأويل الحلمين اللذين طلبا تأويلهما ،لأن القرآن لم يحدّثنا عن ذلك ،باعتبار أنه لا يجد كبير أثر فالجانب الأهم هو في ما أراد أن يوحيه من ضرورة الالتزام بخط الدعوة في ساحات مماثلة لساحة السجن ،حيث يملك الإنسان من حرية الحديث ،وإمكانات التأثير في الآخرين ،ما لا يملكه في غيرها ،مما يفرض عليه عدم التعلل بالأعذار الواهية أمام نفسه أو أمام الآخرين ،للتقاعس عن أداء المهمّة أو التحرك في خط الرسالة .