{أَوَى}َ: التجأ .
{الْفِتْيَةُ}: جمع فتى من الفتوة والشباب .
الفرار من الظلم والاضطهاد
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} واستقرّوا فيه .ولكن لماذا جاؤوا إليه ؟هل أرادوا الخلوة للعبادة أو للتأمّل أو للعزلة عن الناسكما يفعل النسّاك في العصور السابقة في ما يحدّثنا به التاريخ عن الكثيرين منهمأم أنهم أرادوا الفرار بأنفسهم من اضطهاد الظلمة أو الكفرة الذين يضغطون على حرية المؤمنين والمستضعفين ؟
إن الآية لا تصرّح بشيء من ذلك ،ولكن الروايات تؤكد موضوع الفرار من الاضطهاد .فقد جاء في تفسير القمي عن الإمام جعفر الصادق( ع ) ،قال: إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملكٍ جبّارٍ عاتٍ ،وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام ،فمن لم يجبه قتله ،وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عز وجل ،ووكل الملك بباب المدينة ،ولم يدع أحداً يخرج حتى يسجد للأصنام ،فخرج هؤلاء بعلّة الصيد ،وذلك أنهم مروا براعٍ في طريقهم ،فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الرّاعي كلب ،فأجابهم الكلب وخرج معهم .
قال( ع ): فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هرباً من دين ذلك الملك ،فلما أمسوا ،دخلوا إلى ذلك الكهف والكلب معهم ،فألقى الله عليهم النعاس .
وقد تكاثرت الروايات في الحديث عن خصوصياتهم وخصوصية الملك الذي كانوا في زمانه ،وكيفية خروجهم ،وما إلى ذلك من أمور لا دخل لها بالفكرة القرآنية في نطاقها العام .ولكن الروايات تتفق على فكرة الخروج على أساس التخلُّص من ظلم الظالم الكافر ،الذي يريد أن يفرض على الناس وعليهم عبادة الأصنام ،بالقهر والتعسُّف .ولم يكن بهم قدرةٌ على المواجهة أو العيش في ظل هذا الجوّ الضاغط ،لأنهم لا يجدون مبرراً للخضوع له ،ليكونوا بانسجامهم مع الكفر مصدر ضلالٍ للناس ،فكانت خطتهم الهرب والخروج إلى منطقةٍ خفيّةٍ يبتعدون بها عن مواطن الضغط الشديد ،ليستطيعوا التخطيط بهدوء للمرحلة المقبلة .وقد يكون اختيارهم لهذا الكهف ،الذي يبدو أنه لم يكن بعيداً عن البلد ،ليكونوا قريبينٍ إلى الناس هناك ،فلعلهم يأتون إليهم أفراداً ،أو لعلّهم يذهبون في الليل خفية عن الأعين ليجتمعوا بهم ،ليتابعوا الدعوة إلى الإيمان ،لأنهم لا يريدون الهروب من المسؤولية .وربما كانوا حائرين في أمرهم ،لا يعرفون السبيل إلى الامتداد في خط الدعوة ،ولا يملكون الخطة التي يواجهون بها المرحلة ،فأرادوا أن يأخذوا بعضاً من الوقت للتفكير وللابتهال الخاشع إلى الله ليلهمهم الصواب ،في ما يريدون الانطلاق فيه .
قد يكون هذا كله ،أو بعضه ،هو ما كانوا يعيشونه عندما اندفعوا إلى الكهف واستقروا فيه .وشعروا بالأمن والاطمئنان ،فرفعوا أيديهم إلى الله ،{رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} في شعورٍ عميقٍ بالانفتاح على الله في ساعات الشدّة ،التي لا مجال فيها إلا للرحمة الإلهية التي تفتح لهم أبواب الحلّ ،وتنزل عليهم ألطاف الخير ،وتسير بهم في اتجاه النجاة ...وربما كان لنا أن نستوحي من ذلك ،أنهم تركوا أمرهم إلى الله ،ولم يقترحوا شيئاً محدداً ،بل كانوا يتطلعون إلى الرحمة المطلقة التي تغمرهم بالفيض الإلهيّ من دون حدود .
{وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} في ما يريدون أن يواجهوه من مواقف ،أو يسيروا فيه من مسالك ،أو ينطلقوا إليه من غايات ،لأنهم لا يملكون وضوح الرؤية للمستقبل الذي ينتظرهم ،فقد كانوا يعيشون في الساحة التي يعرفونها جيداً ويعرفون كيف يتعاملون معها ،ولكنهم الآن في ساحةٍ مجهولةٍ لا يعرفون أين هي ،وكيف هي ،وما هي الأوضاع المحيطة بها ،الأمر الذي يجعلهم يخافون الضلال في هذا الجو الغامض الموحش الذي لا يعرفون مداه .
ضرورة الرجوع إلى الله في كل الأوقات
وهذا ما قد يحتاج العاملون في سبيل الله إلى استلهامه في أوقات الشدّة ومواضع الحيرة ،عندما تضغط عليهم القوى الكافرة والطاغية بضغوطها الوحشية والهمجية ،ويتحيّرون في مفترق الطرق ،فلا يعرفون إلى أين يسيرون .
إن الرجوع إلى الله في طلب الرحمة ،وتهيئة سبيل الرشاد ،يمنح المؤمنين العاملين قدراً كبيراً من الاستقرار الروحي ،والطمأنينة النفسية ،والهدوء الفكري ،والثقة بالمستقبل ...من خلال الثقة بالله ،والاطمئنان إليه ،والركون إلى ساحته الحصينة ...وبذلك يمكنهم مواصلة الطريق نحو الهدف الكبير ،بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي تحيط بهم من كل جانب .