{الْكَهْفِ}: المغارة الواسعة المحفورة في الجبل ،فإذا صغر فهو غار أو مغارة .
{وَالرَّقِيمِ}: أصله من الرقم وهو الكتابة ،والمراد به هنا اللّوح الذي كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف .
مناسبة النزول
وربما تذكر بعض الأحاديث المأثورة أنها كانت مورد سؤال من قريش لرسول الله ،في ما تعلَّموه من أحبار اليهود .فقد جاء في تفسير القميّ حديث مرفوع إلى أبي عبد الله ( ع ) قال: كان سبب نزول سورة الكهف أن قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود مسائل يسألونها رسول الله ( ص ) .
فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم اسألوه عن مسألة واحدة ،فإن ادّعى علمها فهو كاذب .
قالوا: وما هذه المسائل ؟قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا ،كم بقوا في نومهم حتى انتبهوا ؟وكم كان عددهم ؟وأي شيء كان معهم من غيرهم ؟وما كان قصتهم ؟وسلوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه من هو ؟وكيف تبعه ؟وما كان قصته معه ؟وسلوه عن طائف طاف مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج من هو ؟وكيف كان قصته ؟ثم أملوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق ،وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه .
قالوا: فما المسألة الرابعة ؟قالوا: سلوه متى تقوم الساعة !فإن ادعى علمها فهو كاذب ،فإن قيام الساعة لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى .
فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق وإن لم يخبرنا علمنا أنه كاذب ،فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم ،فسألوه عن الثلاث المسائل .
فقال رسول الله( ص ): غداً أخبركم ولم يستثن ،فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً ،اغتم النبي( ص ) وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به ،وفرحت قريش واستهزأوا وآذوا ،وحزن أبو طالب .
فلما كان بعد أربعين يوماً ،نزل عليه سورة الكهف ،فقال رسول الله( ص ): يا جبرائيل لقد أبطأت ،فقال: إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله ،فأنزل الله تعالى:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آياتِنَا عَجَبًا} ثم قصّ قصّتهم .
وهذا نموذح للناس الذين انطلقوا إلى الحياة من موقع الرسالة ،التي تؤكد نفسها بالممارسة والعمل ،في مواجهة الناس الذين اختنقوا في داخلها وتجمّدوا في دائرتها ،فلم يتحركوا بعيداً عنها .ولكن ميزة هؤلاء المؤمنين أن الله قد أدخل في قصتهم عنصر الغيب ،الذي يبعث على الدهشة ويدعو إلى الاستغراب ،فقد أنامهم الله مدة طويلة ،ثم أحياهم من جديد لحكمة خفيّةٍ ،من خلال ما يريده من إثارة الأمور الخارقة للعادة في الحياة .
وقد تكون القصة صادفت تعجُّباً واستغراباً لدى الناس آنذاك ،لأنهم إذا كانوا يستبعدون أو ينكرون عودة الناس إلى الحياة بعد الموت في يوم القيامة ،فكيف يتقبلون عودة بعضهم إلى الحياة في الدنيا بعد أن شبعوا موتاً مدة ثلاثة قرون أو تزيد ؟!وهذا ما جعل القرآن الكريمفي هذه الآياتيستنكر اعتبارها أمراً عجيباً يدعو إلى الاستنكار ،لأن العجب إنما يكون في فعل الإنسان لما هو غير عاديٍّ أو مألوفٍ ،أمّا ما يكون من آيات الله ،فإن المسألة لا تدعو إلى أيّ استغرابٍ ،لأن الكون كله ،في مظاهره الكونية أو الإنسانية أو الحيوانية ،مظهرٌ لقدرة الله التي لا يعجزها أو يقف أمامها أيّ شيء .
وهذا ما أراد القرآن أن يعمّقه في وعي الناس من خلال القصة ،وما توحي به من فكرة البعث ،كنموذجٍ حيٍّ مصغَّرٍ للفكرة ،بالإضافة إلى الدروس الأخرى التي تريد للدعاة إلى الله أن يتمثلوها في وجدانهم الثقافي وحركتهم العملية في خط الدعوة والجهاد .
أصحاب الكهف والرقيم
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آياتِنَا عَجَبًا} هل تظن أن هناك عجباً في قصة هؤلاء ،التي كانت آيةً من آيات الله ،فهل يعجب أحدٌ من آياته ؟!
والظاهر أن هؤلاء جماعةٌ واحدةٌ ،وإن ذُكروا باسمين ،فهم أصحاب الكهف لدخولهم فيه وحدوث ما حدث لهم في داخله ،وهم أصحاب الرقيم ،لأن قصتهمكما يقالكانت مكتوبةً في لوحٍ منصوبٍ هناك ،أو في خزانةٍ الملوك .وهناك وجوهٌ أخرى ،يقول بعضها إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف ،أو الوادي الذي فيه الجبل ،أو البلد الذي خرجوا منه .
وقيل إنهم جماعتان ،فصَّل الله قصة جماعة ،ولم يفصِّل قصة الأخرى ،ولكن هذا بعيدٌ عن طبيعة الجوّ وحركة القصة في القرآن ،لأن إهمال قصة أصحاب الرقيم ،بعد التعرض لذكرهم ،يبتعد عن جانب البلاغة في القرآن ،لأن طريقة التفاهم بين الناس في أبسط مواقعها لا تسمح بأن يهمل الإنسان الحديث عن شيء أو شخص أو جماعة ...بعد أن يكون قد ذكرها بالاسم في بداية الكلام ،لأن ذكر ذلك يثير الاهتمام بالمعرفة ،ويدعو المتكلم إلى الاستجابة إلى ذلك .