قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} .
{أَمْ} في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة عن التحقيق ،ومعناها عند الجمهور «بل والهمزة » وعند بعض العلماء بمعنى «بل » فقط ،فعلى القول الأول فالمعنى: بل أحسبت ،وعلى الثانيفالمعنى: بل حبست ،فهي على القول الأول جامعة بين الإضراب والإنكار .وعلى الثانيفهي للإضراب الانتقالي فقط .
وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة: أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن قصة أصحاب الكهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها ،فليست شيئاً عجباً على الأرض زينة لها ،وجعلنا إياها بعد ذلك صعيداً جرزاًأعظم وأوجب مما فعلنا بأصحاب الكهف ،ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل ،ثم بعثناهم ،ويدل لهذا الذي ذكرنا آيات كثيرة:
منهاأنه قال:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} إلى قوله{صَعِيداً جُرُزاً 8} ،ثم أتبع ذلك بقوله:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} الآية ،فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا عجب فيها بالنسبة إلى ما خلقنا مما هو أعظم منها .
ومنهاأنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس ،ومن خلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك ،كقوله تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} الآية ،وكقوله:{أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بَنَاهَا 27} إلى قوله{مَتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم 33} كما قدمناه مستوفى في سورة «البقرة والنحل » .
ومن خلق هذه المخلوقات العظام: كالسماء والأرض وما فيهمافلا عجب في إقامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة ،ثم بعثه إياهم ،كما هو واضح .
والكهف: النقب المتسع في الجبل ،فإن لم يك واسعاً فهو غار .وقيل: كل غار في جبل: كهف .وما يروى عن أنس من أن الكهف نفس الجبل غريب ،غير معروف في اللغة .
واختلف العلماء في المراد ب{الرقيم} في هذه الآية على أقوال كثيرة ،قيل: الرقيم اسم كلبهم ،وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول:
وليس بها إلا الرقيم مجاورا *** وصيدهم والقوم في الكهف همد
وعن الضحاكأن الرقيم: بلدة بالروم ،وقيل: اسم الجبل الذي فيه الكهف .وقيل: اسم للوادي الذي فيه الكهف .والأقوال فيه كثيرة .وعن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما الرقيم ؟أكتاب أم بنيان ؟.
وأظهر الأقوال عندي بحسب اللغة العربية وبعض آيات القرآن: أن الرقيم معناه: المرقوم ،فهو فعيل بمعنى مفعول ،من رقمت الكتاب إذا كتبته ،ومنه قوله تعالى:{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ 9} الآية .سواء قلنا: إن الرقيم كتاب كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به ،أو لوح من ذهب كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم وسبب خروجهم ،أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم .والعلم عند الله تعالى .
والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم: طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين: أحدهما معطوف على الآخر ،خلافاً لمن قال: إن أصحاب الكهف طائفة ،وأصحاب الرقيم طائفة أخرى وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ولم يذكر له شيئاً عن أصحاب الرقيم: وخلافاً لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه ،فدعو الله بأعمالهم الصالحة: وهم البار بوالديه ،والعفيف ،والمستأجر .وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح ،إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المرادبعيد كما ترى .
واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم ،وفي أي محل من الأرض كانواكل ذلك لم يثبت فيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن ،وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{عَجَبًا} صفة المحذوف ،أي شيئاً عجباً .أو آية عجباً .
وقوله:{مِنْ آيَاتِنَا} في موضع الحال .وقد تقرر في فن النحو أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالاً ،وأصل المعنى: كانوا عجباً كائناً من آياتنا ،فلما قدم النعت صار حالاً .