قصة أهل الكهف
تصدى القرآن الكريم لبيان أهل الكهف بما لم يتصد به كتاب مقدس ، ولا نريد أن نخوض في أمر لم يخض فيه القرآن فلا نريد أن نرجم بالغيب ، ولا أن نسير وراء الظنون ، والقرآن ليس كتاب تاريخ ولكنه كتاب عظة واعتبار ، وكل ما فيه صدق لا مجال للريب فيه .
أكثر الذين تعرضوا لبيان من هم أهل الكهف يقولون:إنهم من النصارى المؤمنين كانوا في عهد اضطهاد النصارى ، فقد كانوا موضع اضطهاد من وقت انتهاء حياة المسيح في الدنيا ، وجاءت عصور اضطهاد شديدة كانوا يفرون بدينهم ، وكان بعض أباطرة روما يبالغون في الاضطهاد حتى أن نيرون إمبراطور روما كان يجعل جلودهم تطلى بالقار ويجعل منهم مشاعل إنسانية تسير في موكبه ، ازدراء لهم ، ومبالغة في إهانتهم ، فكان يفر منهم من يفر إلى الكهوف والمغارات فرارا بدينهم وبنفسهم .
وقد جاءت عبارات ابن كثير بما يفيد أنهم من اليهود لا من النصارى ، وحجته في ذلك أن اليهود هم الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وعن أهل الكهف ، وعن ذي القرنين ، وأن ذلك يدل على أن وقائع قصة أهل الكهف كانت قبل النصرانية لا بعدها .
ونقول في الجواب عن ذلك:
أولا:إن التوراة ليس فيها ذكر لأهل الكهف ، ولا من كان محيطا بهم .
وثانيا:أن أخبار أهل الكهف مذكورة في شهداء النصارى وفي كتبهم ككتاب ( الكنز الثمين ) .
وثالثا:أن ابن كثير نفسه ذكر أنه في عهد ملوك الرومان وهو دقلديانوس ، فقد جاء فيه ما نصه:( لقد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد ، اسمه دقلديانوس وكان يأمر الناس بذلك ، ويحثهم عليه ويدعوهم إليه ، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، وعرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السماوات والأرض ، فجعل كل واحد يتخلص من قومه ، وينحاز منهم ، ويتبرز عنهم ناحية ، فكان أول من جلس منهم أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة ، فجاء الآخر فجلس إليها عنده ، وجاء الآخر فجلس ، وجاء الآخر ، والآخر ، ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان . . . .".
لا يهمنا الخبر كله ، وإنما يهمنا منه أنه ذكر دقلديانوس وقد ذكره ، وكان من أشد أباطرة الرومان على النصارى وخصوصا أهل مصر ، فقد أوقع بهم مقتلة عظيمة كانت سنة 284من الميلاد ، ومنها كان التاريخ القبطي ، وهذا يدل على أنهم كانوا بعد النصرانية ، ولم يكونوا قبلها .
وما ذكر في كتب السيرة من أن اليهود حرضوا المؤمنين على أن يسألوا عن الروح وأهل الكهف وذي القرنين فهو متزيد فيه ، والثابت برجحان الأسئلة كانت عن الروح ، وعن العبد الصالح صاحب موسى وعن ذي القرنين كما ذكرنا أولا ، وأن الاضطهاد للنصارى استمر حتى حرفوا دين المسيح عليه السلام ، وكانت سيادة التثليث بعد سنة 325 عقب مجمع نيقية وكان الاضطهاد قبل ذلك للموحدين ، وأهل الكهف منهم ، وكانت معجزة الله تعالى فيهم .
ولكن ما عددهم ، وما المدة التي مكثوها ؟ ، أما عددهم فكما تدل الآيات سبعة ، وحكى الله تعالى عنهم ذلك ، فقال عز من قائل:{ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربّي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا 22} .
وربما يكون هذا النص مشيرا إلى أنهم سبعة ، لأنه ذكر في الثلاثة والخمسة أنه رجم بالغيب ، ولم يذكر ذلك في السبعة ، ولكنه سبحانه وتعالى نهى عن المماراة في ذلك ، وعدم الاستفتاء فيه ، لأنه لا جدوى في معرفته ، وكل علم لا يترتب عليه اعتقاد أو عمل لا فائدة فيه ولا في شغل الذهن به .
وأما المدة التي مكثوها في الكهف ، فإنها كما قال تعالى:{ ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا 25} ، أي أنهم مكثوا تسع سنين وثلاثمائة ، بالسنين القمرية ، وبعض العلماء قدرها بالشمسية بثلاثمائة سنة ، ويأتي بعد ذلك في أي عصر من العصور كانت هذه المدة ، وكنا نظنها في عهد دقلديانوس الذي أشار إليه ابن كثير ، ولكن رجّعنا النص القرآني إلى الحق ، وهو تسع وثلاثمائة ، ولا يمكن أن يكون ابتداء المكث في عهد دقلديانوس ، لأن معنى ذلك أنه استمر
إلى آخر القرن السادس تقريبا ، وأنه في هذا الوقت كانت النصرانية قد ثلثت ، ولم تعد ديانة توحيد ، ولا مسيحية لأن المسيح برئ منها .
وكان حقا علينا أن نفهم ، حيث أفهم القرآن مصدقين مذعنين ، ولكن لا مانع أن نقول إنها ابتدأت من عهد الاضطهاد الروماني بعد أن انتهت حياة المسيح في الدنيا ، واستمرت المدة التي ذكرها القرآن الذي{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه تنزيل من حكيم حميد 42} ( فصلت ) .
قال الله تعالى:
{ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا 9} .
{ الكهف} مكان متسع في الجبل ، و{ الرقيم} اسم للجبل ، أو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم ، أو واد بالجبل ، وأيا ما كان فهو تعريف بمكان كهفهم بجبله أو بواديه أو رصاص كتبت أسماؤهم عليه .
و{ أم} للاستفهام مع الإضراب لمن عجبته ، وأنها ليست أكثر من عجائب الوجود والخلق بإرادة الله ، فليس بقاء أجسام إنسانية حية أمدا طويلا ، كما أنه ليس وجودهم راقدين أكثر من ثلاثمائة سنة أمرا عجبا في ذاته من خلق السماوات والأرض وما فيها ، أو من خلق الإنسان من طين ، أو من أدوار خلق الإنسان من نطفة من ماء إلى علقة إلى مضغة ، ليس بقاؤهم أحياء رقودا أعجب من هذا الخلق العظيم .
والاستفهام مقصود منه التنبيه وتوجيه الأنظار أولا إلى أن هذا كان عجابا ، أي أحسبتم أن أصحاب الكهف والمقام الذي كان كهفهم على مقربة عجبا من آيات الله ، إنها ليست بعجب من آيات الله تزيد على آياته في خلقه ، إن كل خلق الله تعالى آيات لأولى الألباب ، وإذا كان في أهل الكهف شيء فهو في دلالته على قدرة الله تعالى في الأحياء والرقود ، وهو دال على البعث بعد الموت ، لأنه إذا كان قادرا على الإبقاء فهو قادر على الإعادة ، وإذا كان قادرا على الإنشاء والإبقاء فهو قادر على الإعادة .