{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} فأراده الله أن يكون محلاً لكرامته ،وموضعاً لرحمته ،{وَيَوْمَ يَمُوتُ} حيث ينتقل إلى رحاب الله وفي روحه كل مشاعر السلام للناس وللحياة ،{وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} حيث يعيش هناك السلام المنفتح على الله ،فيقوده ذلك إلى رحاب الجنة التي هي دار السلام .
ماذا نستوحي من القصة ؟
وقد نستوحي من قصة زكريا ويحيى أن الإنسان المؤمن لا يسقط في مشاعر اليأس الخانقة عندما تحاصره الموانع الطبيعية التي قد توحي إليه باستحالة ما يطلبه واقعياً ،بل يبقى في أجواء الأمل الروحية التي تنفتح على قدرة الله ورحمته ،وذلك من خلال عالم الغيب الذي يطل على الآفاق غير العادية من حياة الناس في ألطاف الله الواسعة ،عندما يرزقه من حيث لا يحتسب ،ويحرسه من حيث لا يحترس ،ويحقق له الكثير من أحلامه من حيث لا ينتظر… وهكذا انطلق زكريا بالدعاء في الدائرة المستحيلة من ناحية واقعية على أساس الإيمان بالله الرحيم بعباده القادر على كل شيء ،بكل عفوية وبساطة وانفتاح ،حتى إذا استجاب الله له ما أراد ،استيقظ فيه حسه المادي الذي يربط الأمور بأسبابها المعتادة ،فيستغرب خروجها عن المألوف .ولكن الله يرجعه إلى وجدانه الروحي ،ويؤكد له ذلك بآياته المعجزة ،فيلتقي الانفتاح الروحي والإيمان بكل قوة .
وإذا لم يكن من العملي أن ننتظر المعجزة من الله كي نتحرك بواسطتها على أرض الواقع ،لأنها لا تمثل قاعدةً في حياة الناس ،بل استثناءً لمصلحةٍ معينة في حياة الأنبياء والأولياء ،فإن لنا أن نستوحي في قصة زكريا القدرة الإلهية على تحدي الصعوبات المادية ،وألاّ نستبعد الغيب في حياتنا الواقعية ،لا سيما في الأوضاع المعقّدة الصعبة والتحديات القوية من أعداء الله ،ما قد يمنحنا القدرة على التماسك ،وعلى حفظ توازن الموقف وصلابته ،أمام حالات الاهتزاز الروحي والفكري والعملي ،الذي يمكن أن يتأتى عن مصادر الضغط المختلفة لننتظر الفرج القادم من عمق الغيب في ما يثيره في حياتنا من قضايا غير اعتيادية ،في ما يحركه الله في الساحة من غامض علمه ،مما لم نستطع اكتشافه بإحساسنا المادي .
ثم إننا نلاحظ هذه الروحية التي تجعله يفكر بالولد المؤَّمل المطلوب من الله خوفاً منه على مستقبل الرسالة ،إذا تسلّمها من ليسوا في مستوى المسؤولية من الأقرباء الغرباء عن مواقعها الأصيلة .ولذلك فإنه يريد الولد الرضيّ الذي يتسلم المهمة من موقع الكفاءة الروحية والأخلاقية والعملية ،ليحفظ الساحة من كل اهتزاز وانحراف واستغلال .
وإذا كنا مصيبين في استفادتنا هذا المعنى من الآيات ،فإن ذلك يؤكد لنا أن همّ الإنسان الرسالي الكبير هو مستقبل الأمة ،وليس فقط حاضرها ،لأن تفكيره لا يقتصر على الحاضر فقط ،بل يتعداه إلى المستقبل في نظرته إلى حركة الرسالة في الحياة ؛كما يوحي إلينا بأن الولد الذي يعيش في أمنياته ،لا يمثل مجرد حاجة ذاتية حدودها الرغبة الإنسانية في امتداد الحياة عبر الأولاد تحقيقاً لرغبة خفيّةٍ بالخلود ،ولو عن طريق غير مباشر ،بل يمثل حاجةً رساليةً لإكمال مشاريع رسالته الفكرية والعملية من خلال أقرب الناس إليه وهو من يعتبر امتداداً لحركته الفاعلة على أكثر من صعيد .
أما يحيى ،فهو صورة الإنسان الرضيّ التقيّ الزكيّ الذي يعيش الوداعة ،والروحانية والطهارة ،والالتزام الواعي بالخط الإلهي ،الذي يريد الله للإنسان أن يتعمّق فيه من خلال روح التقوى ليحرك الحياة من حوله من خلال تلك الروح ،ولكن ذلك لا يمنعه من أن يحمل الكتاب بقوة ،ويتحدّى الواقع المنحرف بإيمان ،في وداعة تفتح القلوب على الحق من موقع أخلاقيٍّ ،وقوة تربط الإرادة بالموقف الرسالي ،ليحطم الحواجز من بين يديه ومن خلفه ،وليفتح الساحة الضعيفة على كلمات الله من قاعدة القوة ،ليكون ذلك مثلاً حياً للداعية الواعي الذي يحب الناس في وداعته وروحانيته ،ويحب الرسالة في حركة الدعوة إلى الله في قوتها وصلابتها ،وهو مثل تفتقر إليه الحياة في حركة الوسائل لتحقيق الأهداف .فمن بين المشاكل التي نعانيها في الواقع الرسالي ،هي مشكلة الرساليين الذين لا ينفتحون على الجانب الإنساني المأساوي من حياة الناس ،ومشكلة من ينفتحون على الرسالة من مواقع الضعف الإرادي .